الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا ﴾ : يَعْنِي جُلُودَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَإِنَّهُ يُتَّخَذُ مِنْهَا بُيُوتًا، وَهِيَ الْأَخْبِيَةُ، فَتُضْرَبُ فَيُسْكَنُ فِيهَا، وَيَكُونُ بُنْيَانًا عَالِيهَا وَنَوَاحِيهَا، وَهَذَا أَمْرٌ انْتَشَرَ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ، وَعَرِيَتْ عَنْهُ بِلَادُنَا، فَلَا تُضْرَبُ الْأَخْبِيَةُ إلَّا مِنْ الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ.
وَقَدْ ﴿ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبَّةً مِنْ أَدَمٍ ﴾، وَنَاهِيَك بِأَدِيمِ
الطَّائِفِ غَلَاءً فِي الْقِيمَةِ، وَاعْتِلَاءً فِي الصِّفَةِ، وَحُسْنًا فِي الْبَشَرَةِ.
وَلَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَفًا وَلَا رَآهُ سَرَفًا ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَذِنَ فِيهِ مِنْ مَتَاعِهِ، وَظَهَرَتْ وُجُوهُ مَنْفَعَتِهِ فِي الِاكْتِنَانِ وَالِاسْتِظْلَالِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْهُ جِنْسُ الْإِنْسَانِ.
وَمِنْ غَرِيبِ مَا جَرَى أَنِّي زُرْت بَعْضَ الْمُتَزَهِّدِينَ مِنْ الْغَافِلِينَ مَعَ بَعْضِ رِجَالِ الْمُحَدِّثِينَ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فِي خِبَاءِ كَتَّانٍ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ صَاحِبِي الْمُحَدِّثُ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ ضَيْفًا، وَقَالَ : إنَّ هَذَا مَوْضِعٌ يَكْثُرُ فِيهِ الْحَرُّ، وَالْبَيْتُ أَرْفَقُ بِك، وَأَطْيَبُ لِنَفْسِي فِيك.
فَقَالَ لَهُ : هَذَا الْخِبَاءُ لَنَا كَثِيرٌ، وَكَانَ فِي صِنْفِهَا مِنْ الْحَقِيرِ.


الصفحة التالية
Icon