وأما القسم الثاني : فهو الواسطة، وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالموعظة الحسنة، وأدناها المجادلة، وأعلى مراتب الخلائق الحكماء المحققون، وأوسطهم عامة الخلق وهم أرباب السلامة، وفيهم الكثرة والغلبة، وأدنى المراتب الذين جبلوا على طبيعة المنازعة والمخاصمة، فقوله تعالى :﴿ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾ معناه ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالحكمة، وهي البراهين القطعية اليقينية وعوام الخلق بالموعظة الحسنة، وهي الدلائل اليقينية الإقناعية الظنية، والتكلم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل.
ومن لطائف هذه الآية أنه قال :﴿ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة﴾ فقصر الدعوة على ذكر هذين القسمين لأن الدعوة إذا كانت بالدلائل القطعية فهي الحكمة، وإن كانت بالدلائل الظنية فهي الموعظة الحسنة، أما الجدل فليس من باب الدعوة، بل المقصود منه غرض آخر مغاير للدعوة وهو الإلزام والإفحام فلهذا السبب لم يقل ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الأحسن، بل قطع الجدل عن باب الدعوة تنبيهاً على أنه لا يحصل الدعوة، وإنما الغرض منه شيء آخر، والله أعلم.
واعلم أن هذه المباحث تدل على أنه تعالى أدرج في هذه الآية هذه الأسرار العالية الشريفة مع أن أكثر الخلق كانوا غافلين عنها، فظهر أن هذا الكتاب الكريم لا يهتدي إلى ما فيه من الأسرار إلا من كان من خواص أولي الأبصار.