ولما ذكر هذا السبب الكلي الأصلي ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب فقال :﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ وذلك لأن إقدام الإنسان على الانتقام، وعلى إنزال الضرر بالغير لا يكون إلا عند هيجان الغضب، وشدة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين : أحدهما : فوات نفع كان حاصلاً في الماضي وإليه الإشارة بقوله :﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ قيل معناه : ولا تحزن على قتلى أحد، ومعناه لا تحزن بسبب فوت أولئك الأصدقاء.
ويرجع حاصله إلى فوت النفع.
والسبب الثاني : لشدة الغضب توقع ضرر في المستقبل، وإليه الإشارة بقوله :﴿وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ ومن وقف على هذه اللطائف عرف أنه لا يمكن كلام أدخل في الحسن والضبط من هذا الكلام بقي في لفظ الآية مباحث :
البحث الأول : قرأ ابن كثير :﴿وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ﴾ بكسر الضاد، وفي النمل مثله، والباقون : بفتح الضاد في الحرفين.
أما الوجه في القراءة المشهورة فأمور : قال أبو عبيدة : الضيق بالكسر في قلة المعاش والمساكن، وما كان في القلب فإنه الضيق.
وقال أبو عمرو : الضيق بالكسر الشدة والضيق بفتح الضاد الغم.
وقال القتيبي : ضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين.
وبهذا الطريق قلنا : إنه تصح قراءة ابن كثير.
البحث الثاني : قرىء ﴿وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ ﴾.
البحث الثالث : هذا من الكلام المقلوب، لأن الضيق صفة، والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون المصوف حاصلاً في الصفة، فكان المعنى فلا يكون الضيق فيك، إلا أن الفائدة في قوله :﴿وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ﴾ هو أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب وصار كالقميص المحيط به، فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon