وقال الآلوسى :
﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾
﴿ ادع ﴾ أي من بعثت إليهم من الأمة قاطبة فحذف المفعول دلالة على التعميم، وجوز أن يكون المراد إفعل الدعوة تنزيلاً له منزلة اللازم للقصد إلى إيجاد نفس الفعل إشعاراً بأن عموم الدعوة غني عن البيان وإنما المقصود الأمر بإيجادها على وجه مخصوص.
وتعقب بأن ذلك لا يناسب المقام كما لا يناسب قوله تعالى :﴿ وجادلهم ﴾.
﴿ إلى سَبِيلِ رَبّكَ ﴾ إلى الإسلام الذي عبر عنه تارة بالصراط المستقيم وأخرى بملة إبراهيم عليه السلام، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير النبي ﷺ ما لا يخفى.
﴿ بالحكمة ﴾ بالمقالة المحكمة وهي الحجة القطعية المزيحة للشبه ؛ وقريب من هذا ما في "البحر" أنها الكلام الصواب الواقع من النفس أجمع موقع ﴿ والموعظة الحسنة ﴾ وهي الخطابات المنقعة والعبر النافعة التي لا يخفى عليهم إنك تناصحهم بها ﴿ وجادلهم ﴾ ناظر معانديهم ﴿ بالتى هِىَ أَحْسَنُ ﴾ بالطريقة التي هي أحسن طرق المناظرة والمجادلة من الرفق واللين واختيار الوجه الأيسر واستعمال المقدمات المشهورة تسكيناً لشغبهم وإطفاءً للهبهم كما فعله الخليل عليه السلام.
واستدل كما قيل أرباب المعقول بالآية على أن المعتبر في الدعوة من بين الصناعات الخمس إنما هو البرهان والخطابة والجدل حيث اقتصر في الآية على ما يضير إليها، وإنما تفاوتت طرق دعوته عليه الصلاة والسلام لتفاوت مراتب الناس، فمنهم خواص وهم أصحاب نفوس مشرقة قوية الاستعداد لإدراك المعاني قوية الانجذاب إلى المبادىء العالية مائلة إلى تحصيل اليقين على اختلاف مراتبه وهؤلاء يدعون بالحكمة بالمعنى السابق.
ومنهم عوام أصحاب نفوس كدرة ضعيفة الاستعداد شديدة الألف بالمحسوسات قوية التعلق بالرسوم والعادات قاصرة عن درجة البرهان لكن لا عناد عندهم وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة بالمعنى المتقدم.


الصفحة التالية
Icon