يلقي نفسه بعده ليموت، وكان بعضهم يحفر له قبراً ثم يضطجع فيه حتى يموت، وامتلأت الشوارع بالموتى، فكان الخوارج يلقونهم من السور إلى الوادي الشرقي، فلما رآهم طيطوس اغتم ورق لهم، وكان ببيت المقدس امرأة من أهل النعم، أصلها من مدينة في حيرة الأردن، فلما كثرت الفتن هناك انتقلت في جملة من انتقل إلى بيت المقدس بجميع عبيدها وسائر نعمتها، ولم يكن لها غير ابن واحد صغير وهي تحبه حباً شديداً، فلما قويت المجاعة، ونهب الخوارج جميع ما عندها، اشتد بها الأمر وكان ابنها يتضور من الجوع، فلما زاد بها الجوع وما يؤلم قلبها من تضور ابنها، أرادت قتل ابنها لتأكله، فبقيت حائرة لا تدري على أيّ الأمرين تحمل نفسها، هل تقتل ولدها العزيز عليها بيدها، وذلك من أعظم الأمور وأشنعها، أم تصبر على ما تراه به وبنفسها من البلاء وقد فارقها الصبر وعدمت الجلد، ثم زاد بها الجوع فزال عنها التمييز فقالت : يا ابني وواحدي! قد كنت آمل أن تعيش حتى تبرني، وكنت أخاف أن تموت قبلي فأفجع بموتك، فيا ليتني كنت قد ثكلتك فدفنتك واحتسبتك عند الله، والآن يا ولدي فقد أحاط بنا المكروه وأيقنا بالهلاك، فالحي لا يرجو الحياة والميت لا يدفن، وأنا وأنت هالكان، وإن مت يا بني لم يدفنك أحد وكنت كغيرك ممن أكلته الكلاب وطيور السماء، وقد رأيت أن أقتلك لتستريح مما أنت فيه ثم آكلك فأجعل بطني التي حملتك فيها قبراً لك، وأسد بك جوعي، فيكون ذلك عوض برك بي الذي كنت أرجوه، وتنال بذلك الأجر العظيم، ويكون ذلك عاراً على هؤلاء الخوارج الذي أوقعونا في هذا البلاء، وزيادة في سخط الله عليهم، ويذكر ذلك على ممر الدهر، ويتحدث به بعدنا الأجيال، ويعتبر به ذوو الألباب، ثم قبضت على ابنها بيدها الواحدة وأخذت الحديدة بالأخرى وهي كالمجنونة، وحولت وجهها عنه لئلا تراه وضربته بالحديدة فمات، ثم أخذت منه وشوته وأكلته، فلما شم الخوارج ريح ذلك


الصفحة التالية
Icon