أما إذا كان المذنب غير مؤمن فالأصل الذي بنينا عليه هذا الحكم ضائع لا وجودَ له، وعقوبة الدنيا هنا لا تُعفي صاحبها من عقوبة الآخرة ؛ لذلك يقول تعالى بعدها: } وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ﴿ [الإسراء: ٨]
﴾ جَعَلْنَا ﴿ فِعْل يفيد التحويل، كأن تقول: جعلت العجين خبزاً، وجعلت القطن ثوباً، أي: صيَّرْتُه وحوَّلْتُه. فماذا كانت جهنم أولاً فيُحوّلها الحق سبحانه حصيراً؟
قوله تعالى: ﴾ جَعَلْنَا ﴿ في هذه الآية لا تفيد التحويل، إنما هي بمعنى خَلَقْنا، أي: خلقناها هكذا، كما نقول: سبحان الذي جعل اللبن أبيض، فاللبن لم يكن له لون آخر فحوَّله الله تعالى إلى البياض، بل خلقه هكذا بداية.
ومعنى: ﴾ حَصِيراً.. ﴿ [الإسراء: ٨]
الحصير فراش معروف يُصنع من القَشِّ أو من نبات يُسمى السَّمُر، والآن يصنعونه من خيوط البلاستيك، وسُمِّي حصيراً، لأن كلمة حصير مأخوذة من الحَصْر، وهو التضييق في المكان للمكين، وفي صناعة الحصير يضمُّون الأعواد بعضها إلى بعض إلى أنْ تتماسكَ، ولا توجد مسافة بين العود والآخر.
لكن لماذا نفرش الحصير؟ نفرش الحصير ؛ لأنه يحبس عَنّا القذَر والأوساخ، فلا تصيب ثيابنا. إذن: الحصر معناه المنع والحبس والتضييق.
والمتتبع لمادة (حصر) في القرآن الكريم يجدها بهذه المعاني، يقول تعالى:{ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ.. ﴾[التوبة: ٥]
أي: ضَيِّقوا عليهم.
وقال تعالى في فريضة الحج:﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.. ﴾[البقرة: ١٩٦] أي: حُبِسْتم ومَنعْتم من أداء الفريضة.
إذن: فقوله تعالى: } وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً { [الإسراء: ٨]