حتى فرغ رسول الله ﷺ من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه تراباً، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.
قلت : ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا.
وذلك أني هربت أمام العدوّ وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن ؛ فعبرا عليّ ثم رجعا من حيث جاءا وأحدهما يقول للآخر : هذا دِيَبْلُه ؛ يعنون شيطاناً.
وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني، والحمد لله حمداً كثيراً على ذلك.
وقيل : الحجاب المستور طَبْعُ اللَّهِ على قلوبهم حتى لا يفقهوه ولا يدركوا ما فيه من الحكمة ؛ قاله قتادة.
وقال الحسن : أي أنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب في عدم رؤيته لك حتى كأن على قلوبهم أغطية.
وقيل : نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله ﷺ إذا قرأ القرآن، وهم أبو جهل وأبو سفيان والنضر بن الحارث وأم جميل امرأة أبي لهب وحُوَيطب ؛ فحجب الله سبحانه وتعالى رسوله ﷺ عن أبصارهم عند قراءة القرآن، وكانوا يمرّون به ولا يرونه ؛ قاله الزجاج وغيره.
وهو معنى القول الأوّل بعينه، وهو الأظهر في الآية، والله أعلم.
وقوله :﴿ مَّسْتُوراً ﴾ فيه قولان : أحدهما : أن الحجاب مستور عنكم لا ترونه.
والثاني : أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه ؛ ويكون مستوراً بمعنى ساتر.
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ﴾
"أكِنة" جمع كِنان، وهو ما ستر الشيء.
وقد تقدم في "الأنعام".
﴿ أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ أي لئلا يفقهوه، أو كراهية أن يفقهوه، أي أن يفهموا ما فيه من الأوامر والنواهي والحِكم والمعاني.
وهذا ردّ على القدرية.
﴿ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ أي صمماً وثقلاً.
وفي الكلام إضمار، أي أن يسمعوه.


الصفحة التالية
Icon