لما أعقب ما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بتبليغه إلى المشركين من أقوال تعظهم وتنهنههم من قوله تعالى :﴿ قل لو كان معه آلهة كما تقولون ﴾ [ الإسراء : ٤٢ ] وقوله : قل كونوا حجارة [ الإسراء : ٥٠ ] وقوله :﴿ قل عسى أن يكون قريباً ﴾ [ الإسراء : ٥١ ] ثني العنان إلى الأمر بإبلاغ المؤمنين تأديباً ينفعهم في هذا المقام على عادة القرآن في تلوين الأغراض وتعقيب بعضها ببعض أضدادها استقصاء لأصناف الهدى ومختلف أساليبه ونفع مختلف الناس.
ولما كان ما سبق من حكاية أقوال المشركين تنبىء عن ضلال اعتقادٍ نقل الكلام إلى أمر المؤمنين بأن يقولوا أقوالاً تعرب عن حسن النية وعن نفوس زكية.
وأوتوا في ذلك كلمة جامعة وهي يقولوا التي هي أحسن }.
و﴿ التي هي أحسن ﴾ صفة لمحذوف يدل عليه فعل ﴿ يقولوا ﴾.
تقديره : بالتي هي أحسن.
وليس المراد مقالة واحدة.
واسم التفضيل مستعمل في قوة الحسن.
ونظيره قوله :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ [ النحل : ١٢٥ ]، أي بالمجادلات التي هي بالغة الغاية في الحسن، فإن المجادلة لا تكون بكلمة واحدة.
فهذه الآية شديدة الاتصال بالتي قبلها وليست بحاجة إلى تطلب سبب لنزولها.
وهذا تأديب عظيم في مراقبة اللسان وما يصدر منه.
وفي الحديث الصحيح عن معاذ بن جبل : أن النبي أمره بأعمالٍ تدخله الجنة ثم قال له : ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟ قلت : بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال : كُفّ عليك هذا.
قال : قلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال : ثكلتك أمك وهل يَكُبّ الناسَ في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم.
والمقصد الأهم من هذا التأديب تأديب الأمة في معاملة بعضهم بعضاً بحسن المعاملة وإلانةِ القول، لأن القول ينم عن المقاصد، بقرينة قوله : إن الشيطان ينزغ بينهم }.


الصفحة التالية
Icon