هذا في يوم القيامة، حيث لا يستطيع أحدٌ الخروجَ عن مُرادات الحق سبحانه بعد أن كان يستطيع الخروج عنها في الدنيا ؛ لأن الخالق سبحانه حين خلق الخَلْق جعل للإرادة الإنسانية سلطاناً على الجوارح في الأمور الاختيارية، فهو مُخْتَار يفعل ما يشاء، ويقول ما يشاء، ويترك ما يشاء، فإرادته أمير على جوارحه، أما الأمور القهرية فلا دَخْل للإرادة بها.
فإذا جاء اليوم الآخر انحلَّتْ الإرادة عن الجوارح، ولم يَعُدْ لها سلطان عليها، بدليل أن الجوارح سوف تشهد على صاحبها يوم القيامة:﴿ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ.. ﴾[فصلت: ٢١]
لقد كانت لكم وَلاَية علينا في دُنْيا الأسباب، أما الآن فنحن جميعاً مرتبطون بالمسبِّب سبحانه، فلا ولاية لكم علينا الآن ؛ لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عن يوم القيامة:﴿ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾[غافر: ١٦]
ففي الدنيا ملَّك الناس، وجعل مصالح أُناسٍ في أيدي آخرين، أما في الآخرة، فالأمر كله والملْك كله لله وحده لا شريك له.
فقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ.. ﴾ [الإسراء: ٥٢] أي: يقول لكم اخرجوا من القبور للبعث بالنفخة الثانية في الصُّور ﴿ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ.. ﴾ [الإسراء: ٥٢] أي: تقومون في طاعة واستكانة، لا قوْمةَ مُسْتنكف أو مُتقاعس أو مُتغطرس، فكلّ هذا انتهى وقته في الدنيا، ونحن الآن في الآخرة.
ونلاحظ أن الحق سبحانه قال: ﴿ فَتَسْتَجِيبُونَ.. ﴾ [الإسراء: ٥٢] ولم يقل: فتُجيبون ؛ لأن استجاب أبلغُ في الطاعة والانصياع، كما نقول: فهم واستفهم أي: طلب الفَهْم، وكذلك ﴿ فَتَسْتَجِيبُونَ ﴾ أي: تطلبون أنتم الجواب، وتُلحُّون عليه لا تتقاعسون فيه، ولا تتأبَّوْن عليه، فتُسرعون في القيام.