ثم قال الرازي بعد : يدلُّ قوله تعالى :﴿ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ﴾ على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة. وذلك يدل على أنه كان نبياً. وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء - فهو عدول عن الظاهر. انتهى.
ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته. لأن مقام إثباتها يحتاج إلى تنصيص وتخصيص. وأما تعمق الجري وراء العمومات، لاستفادة مثل ذلك، فغير مقنع.
وأما قوله تعالى :﴿ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ﴾ فقدمنا أنه كناية عن تمكينه تعالى له منهم. لا أنه قول مشافهة. وإلا لو كان ذلك لكان مخيراً منه تعالى وملقناً ما يفعل بهم. فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر. ولا يقال إن الأصل في الإطلاق الحقيقة. لأنا نقول به، ما لم يمنع منه مانع، من نحو ما ذكرناه. وللتنزيل الكريم أسلوب خاص، عرفه من أنعم النظر في بديع بيانه. نعم. لو كان مراد القائل بنبوته أنه من الملهمين ذهاباً في النبوة إلى المعنى الأعم من الإيحاء بشرع، ومن الإلهام، لكان قريباً. فتكون نبوته من القسم الثاني وهو الإلهام. ويطلق الصوفية على مثله الوارد. وجاء في الحديث تسمية صاحبه محدَّثاً. وإطلاق النبوة عليه، وإن كان محظوراً في الإسلام، إلا أنه كان معروفاً قبله في العباد الأخيار.
التنبيه الخامس : حكي في قوله تعالى :﴿ وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ﴾ قولان في أن السائلين هم اليهود أو غيرهم. ورجح الأول من وجهتين :
أولهما : أن للإسكندر عند اليهود شأناً وقدراً. وذلك لما حكي أنه لما فتح غزة ودنا من بيت المقدس، خرج إليه رئيس أحبارها وقدم إليه الطاعة. فدخلها إسكندر وسمع نبوة التوراة فسرَّ وأحسن إلى اليهود. وتعقب بعض المؤرخين هذه الرواية بأنها غير مأثورة في كتب اليونان، ولم يروها أحد من مؤرخيهم.
ثانيهما : أن عنوان ذو القرنين من رموز الإسرائيليين كما قدمناه عنهم.