الكتاب المذكور يحتمل أن يكون هو التوراة التي هي نعمة الله على بني إسرائيل لقوله تعالى :﴿وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة﴾ [ الجاثية : ١٦ ] ويحتمل أن يكون كتاباً خص الله به يحيى كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك والأول أولى لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى ولا معهود ههنا إلا التوراة.
المسألة الثالثة :
قوله :﴿بِقُوَّةٍ﴾ ليس المراد منه القدرة على الأخذ لأن ذلك معلوم لكل أحد فيجب حمله على معنى يفيد المدح وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهي عنه.
الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً﴾ اعلم أن في الحكم أقوالاً.
الأول : أنه الحكمة ومنه قول الشاعر :
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت.. إلى حمام سراع وارد الثمد
وهو الفهم في التوراة والفقه في الدين.
والثاني : وهو قول معمر أنه العقل روي أنه قال ما للعب خلقنا.
والثالث : أنه النبوة فإن الله تعالى أحكم عقله في صباه وأوحى إليه وذلك لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما السلام وهما صبيان لا كما بعث موسى ومحمداً عليهما السلام، وقد بلغا الأشد والأقرب حمله على النبوة لوجهين : الأول : أن الله تعالى ذكر في هذه الآية صفات شرفه ومنقبته ومعلوم أن النبوة أشرف صفات الإنسان فذكرها في معرض المدح أولى من ذكر غيرها فوجب أن تكون نبوته مذكورة في هذه الآية ولا لفظ يصلح للدلالة على النبوة إلا هذه اللفظة فوجب حملها عليها.