فصل


قال الفخر :
﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) ﴾
اعلم أنه وصف نفسه بصفات تسع : الصفة الأولى : قوله :﴿إِنّى عَبْدُ الله﴾ وفيه فوائد : الفائدة الأولى : أن الكلام منه في ذلك الوقت كان سبباً للوهم الذي ذهبت إليه النصارى، فلا جرم أول ما تكلم إنما تكلم بما يرفع ذلك الوهم فقال :﴿إِنّى عَبْدُ الله﴾ وكان ذلك الكلام وإن كان موهماً من حيث إنه صدر عنه في تلك الحالة، ولكن ذلك الوهم يزول ولا يبقى من حيث إنه تنصيص على العبودية.
الفائدة الثانية : أنه لما أقر بالعبودية فإن كان صادقاً في مقاله فقد حصل الغرض وإن كان كاذباً لم تكن القوة قوة إلهية بل قوة شيطانية فعلى التقديرين يبطل كونه إلهاً.
الفائدة الثالثة : أن الذي اشتدت الحاجة إليه في ذلك الوقت إنما هو نفي تهمة الزنا عن مريم عليها السلام ثم إن عيسى عليه السلام لم ينص على ذلك وإنما نص على إثبات عبودية نفسه كأنه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن الأم، فلهذا أول ما تكلم إنما تكلم بها.
الفائدة الرابعة : وهي أن التكلم بإزالة هذه التهمة عن الله تعالى يفيد إزالة التهمة عن الأم لأن الله سبحانه لا يخص الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية والمرتبة العظيمة.
وأما التكلم بإزالة التهمة عن الأم لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى فكان الاشتغال بذلك أولى فهذا مجموع ما في هذا اللفظ من الفوائد، واعلم أن مذهب النصارى متخبط جداً، وقد اتفقوا على أنه سبحانه ليس بجسم ولا متحيز، ومع ذلك فإنا نذكر تقسيماً حاصراً يبطل مذهبهم على جميع الوجوه فنقول : إما أن يعتقدوا كونه متحيزاً أو لا، فإن اعتقدوا كونه متحيزاً أبطلنا قولهم بإقامة الدلالة على حدوث الأجسام، وحينئذ يبطل كل ما فرعوا عليه.


الصفحة التالية
Icon