وعند ذلك عرف أن النقاش بخلاف النقش والباني بخلاف البناء، فانفتح له من أعلى سماء عالم المحدثات روازن إلى أضواء لوائح عالم القدم وطالع عالم القدم الأزلية والجلال وكان العقل إنما نظر إلى أضواء عالم الأزلية من ظلمات عالم الحدوث والإمكان فغلبته دهشة أنوار الأزلية فعميت عيناه فبقي متحيراً فالتجأ بطبعه إلى مفيض الأنوار، فقال :﴿رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي﴾ فإن البحار عميقة والظلمات متكاثفة، وفي الطريق قطاع من الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الإنس والجن كثيرة فإن لم تشرح لي صدري ولم تكن لي عوناً في كل الأمور انقطعت، وصارت هذه الخلع سبباً لنيل الآفات لا للفوز بالدرجات.
فهذا هو المراد من قوله :﴿رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي﴾ ثم قال :﴿وَيَسّرْ لِي أَمْرِي﴾ وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فما لم يصر العبد مريداً له استحال أن يصير فاعلاً له، فهذه الإرادة صفة محدثة ولا بد لها من فاعل وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى، ولزم التسلسل بل لا بد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم فيكون في الحقيقة هو الميسر للأمور وهو المتمم لجميع الأشياء وتمام التحقيق أن حدوث الصفة لا بد له من قابل وفاعل فعبر عن استعداد القابل بقوله :﴿رَبِّ اشرح لي صَدْرِي﴾ وعبر عن حصول الفاعل بقوله :﴿وَيَسّرْ لِي أَمْرِي﴾ وفيه التنبيه على أنه سبحانه وتعالى هو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يقولون : يا مبتدئاً بالنعم قبل استحقاقها.
ومجموع هذين الكلامين كالبرهان القاطع على أن جميع الحوادث في هذا العالم واقعة بقضائه وقدره وحكمته وقدرته.