وإنما دلت هذه الأشياء على وجود الصانع سبحانه لأن اتصاف كل جسم من هذه الأجسام بتلك الصفة أعني التركيب والقوة والهداية، إما أن يكون واجباً أو جائزاً والأول باطل لأنا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكة عن تلك التراكيب والقوى فدل على أن ذلك جائز، والجائز لا بد له من مرجح وليس ذلك المرجح هو الإنسان ولا أبواه لأن فعل ذلك يستدعي قدرة عليه وعلماً بما فيه من المصالح والمفاسد، والأمران نائيان عن الإنسان لأنه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة، وبعد البحث الشديد عن كتب التشريح لايعرف من منافع الأعضاء ومصالحها إلا القدر القليل فلا بد أن يكون المتولي لتدبيرها وترتيبها موجوداً آخر وذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسماً لأن الأجسام متساوية في الجسمية فاختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثرية لا بد وأن يكون جائزاً وإن كان جائزاً افتقر إلى سبب آخر والدور والتسلسل محالان، فلا بد من الانتهاء في سلسلة الحاجة إلى موجود مؤثر ومدبر ليس بجسم ولا جسماني ثم تأثير ذلك المؤثر إما أن يكون بالذات أو بالاختيار، والأول محال لأن الموجب لا يميز مثلاً عن مثل وهذه الأجسام متساوية في الجسمية فلم اختص بعضها بالصورة الفلكية وبعضها بالصورة العنصرية وبعضها بالنباتية وبعضها بالحيوانية ؟ فثبت أن المؤثر والمدبر قادر والقادر لا يمكنه مثل هذه الأفعال العجيبة إلا إذا كان عالماً، ثم إن هذا المدبر الذي ليس بجسم ولا جسماني لا بد وأن يكون واجب الوجود في ذاته وفي صفاته وإلا لافتقر إلى مدبر آخر ويلزم التسلسل وهو محال، وإذا كان واجب الوجود في قادريته وعالميته والواجب لذاته لا يتخصص ببعض الممكنات دون البعض وجب [ أن ] يكون عالماً بكل ما صح أن يكون معلوماً وقادراً على كل ما صح أن يكون مقدوراً فظهر بهذه الدلالة التي تمسك بها موسى عليه السلام ونبه على تقريرها استناد العالم إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني وهو واجب الوجود في ذاته وفي


الصفحة التالية
Icon