وخامسها : قال ابن جرير لا يخطىء في التدبير فيعتقد في غير الصواب كونه صواباً وإذا عرفه لا ينساه وهذه الوجوه متقاربة والتحقيق هو الأول.
المسألة الثالثة :
أنه لما سأله عن الإله وقال :﴿فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى﴾ وكان ذلك مما سبيله الإستدلال أجاب بما هو الصواب بأوجز عبارة وأحسن معنى، ولما سأله عن شأن القرون الأولى وكان ذلك مما سبيله الإخبار ولم يأته في ذلك خبر وكله إلى عالم الغيوب، واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر الدلالة الأولى وهي دلالة عامة تتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات ذكر بعد ذلك دلائل خاصة وهي ثلاثة.
أولها : قوله تعالى :﴿الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً﴾ وفيه أبحاث :
البحث الأول : قرأ أهل الكوفة ههنا وفي الزخرف ﴿مهداً﴾ والباقون قرؤوا مهاداً فيهما قال أبو عبيدة : الذي اختاره مهاداً وهو اسم والمهد اسم الفعل، وقال غيره : المهد الاسم والمهاد الجمع كالفرش والفراش أجاب أبو عبيدة بأن الفراش اسم والفرش فعل، وقال المفضل هما مصدران لمهد إذا وطأ له فراشاً يقال مهد مهداً ومهاداً وفرش فرشاً وفراشاً.
البحث الثاني : قال صاحب "الكشاف" :﴿الذي جَعَلَ﴾ مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو لأنه صفة لربي أو منصوب على المدح وهذا من مظانه ومجازه، واعلم أنه يجب الجزم بكونه خبراً لمبتدأ محذوف إذ لو حملناه على الوجهين الباقيين لزم كونه من كلام موسى عليه السلام ولو كان كذلك لفسد النظم بسبب قوله :﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نبات شتى﴾ على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
البحث الثالث : المراد من كون الأرض مهداً أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع وقد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَاء﴾ [ البقرة : ٢٢ ].