ولما كان في إفاضة الروح من الجلالة والعظم ما يضمحل عنده غيره من المفاوتة، أشار إلى ذلك بحرف التراخي فقال :﴿ثم هدى﴾ أي كل حيوان منه مع أن فيها العاقل وغيره إلى جميع منافعه فيسعى لها، ومضاره فيحذرها، فثبت بهذه المفاوتة والمفاصلة مع اتحاد نسبة الكل إلى الفاعل أنه واحد مختار، وأن ذلك لو كان بالطبيعة المستندة إلى النجوم أو غيرها كما كان يعتقده فرعون وغيره لم يكن هذا التفاوت.
ولما لم يكن لأحد بالطعن في هذا الجواب قبل لأنه لا زلل فيه ولا خلل مع رشاقته واختصاره وسبقه بالجمع إلى غاية مضماره - صرف الكلام بسرعة خوف من الاتضاح، بزيادة موسى عليه السلام في الإيضاح، فيظهر الفساد من الصلاح، إلى شيء يتسع فيه المجال، ولا يقوم عليه دليل، فيمكن فيه الرد، فأخبر عنه سبحانه على طريق الاستئناف بقوله :﴿قال فما﴾ أي تسبب عما تضمن هذا من نسبة ربك إلى العلم بكل موجود أني أقول لك : فما ﴿بال﴾ أي خبر ﴿القرون الأولى﴾ الذي هو في العظمة بحيث إنه ما خالط أحداً إلى أحاله وأماله، وهو وأن كان حيدة، هو من أمارات الانقطاع، غير أنه فعل راسخ القدم في المكر والخداع.
ولما فهم عنه موسى عليه السلام ما أراد أن ترتب على الخوض في ذلك مما لا طائل تحته من الرد والمطاولة، ولم تكن التوراة نزلت عليه إذ ذاك، وإنما نزلت بعد هلاك فرعون لم يمش معه في ذلك ﴿قال﴾ قاطعاً له عنه :﴿علمها عند ربي﴾ أي المحسن إليّ بإرسالي وتلقيني الحجاج.
ولما كانت عادة المخلوقين إثبات الأخبار في الكتب، وكان تعالى قد وكل بعباده من ملائكته من يضبط ذلك، قال مخاطباً له بما يعرفون من أحوالهم :﴿في كتاب﴾ أي اللوح المحفوظ.