ورابعها : إن هارون عليه السلام قال :﴿لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى﴾ فإن كان الأخذ بلحيته وبرأسه جائزاً كان قول هارون لا تأخذ منعاً له عما كان له أن يفعله فيكون ذلك معصية، وإن لم يكن ذلك الأخذ جائزاً كان موسى عليه السلام فاعلاً للمعصية فهذه أمثلة لطيفة في هذا الباب.
والجواب عن الكل : أنا بينا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا﴾ [ البقرة : ٣٦ ] أنواعاً من الدلائل الجلية في أنه لا يجوز صدور المعصية من الأنبياء، وحاصل هذه الوجوه تمسك بظواهر قابلة للتأويل ومعارضة ما يبعد عن التأويل بما يتسارع إليه التأويل غير جائز، إذا ثبتت هذه المقدمة فاعلم أن لنا في الجواب عن هذه الإشكالات وجوهاً.
أحدها : أنا وإن اختلفنا في جواز المعصية على الأنبياء لكن اتفقنا على جواز ترك الأولى عليهم، وإن كان كذلك فالفعل الذي يفعله أحدهما ويمنعه الآخر أعني بهما موسى وهارون عليهما السلام لعله كان أحدهما أولى والآخر كان ترك الأولى فلذلك فعَله أحدهما وتركه الآخر، فإن قيل هذا التأويل غير جائز لأن كل واحد منهما كان جازماً فيما يأتي به فعلاً كان أو تركاً وفعل المندوب وتركه لا يجزم به، قلنا : تقييد المطلق بالدليل غير ممتنع، فنحن نحمل ذلك الجزم في الفعل والترك على أن المراد افعل ذلك أو اتركه إن كنت تريد الأصلح، وقد يترك ذلك الشرط إذا كان تواطؤهما على رعايته معلوماً متقرراً.


الصفحة التالية
Icon