وهكذا، يعطينا القرآن مثالاً للجدل بالحكمة والموعظة الحسنة، للجدل الصادر عن عِلْم بما تقول، وإدراك لحقائق الأمور.
لذلك ؛ لما ذهب الشَّعْبي لملك الروم قال له الملك : عندكم في الإسلام أمور لا يُصدِّقها العقل، فقال الشَّعْبيّ : ما الذي في الإسلام يخالف العقل؟ قال : تقولون إن في الجنة طعاماً لا ينفد أبداً، ونحن نعلم أن كل ما أُخذ منه مرة بعد مرة لابُدَّ أنْ ينفد. انظر إلى الجدل في هذه المسألة كيف يكون.
قال الشَّعْبي : أرأيتَ لو أن عندك مصباحاً، وجاءت الدنيا كلها فقبستْ من ضوئه، أينقص من ضوء المصباح شيء؟ هذا - إذن - جدل راقٍ وعلى أعلى مستوى.
ويستمر ملك الروم فيقول : كيف نأكل في الجنة كُلَّ ما نشتهي دون أوْ نتغوّط أو تكون لنا فضلات؟ نقول : أرأيتم الجنين في بطن الأم : أينمو أم لا؟ إنه ينمو يوماً بعد يوم، وهذا دليل على أنه يتغذَّى، فهل له فضلات؟ لو كان للجنين فضلات ولو تغوَّط في مشيمته لمات، إذن : يتغذى الجنين غذاءً على قَدْر حاجة نموه، بحيث لا يتبقى من غذائه شيء.
ثم قال : أين تذهب الأرواح بعد أنْ تفارق الأجساد؟ أجاب الرجل إجمالاً : تذهب حيث كانت قبل أنْ تحلَّ فيك، وأمامك المصباح وفيه ضوء، ثم نفخ المصباح فانطفأ، فقال له : أين ذهب الضوء؟
ومن الجدل الذي جاء عن عِلْم ودراية ما حدث من الإمام علي رضي الله عنه، حيث قتلَ أصحابُ معاوية عمارَ بن ياسر، فغضب الصحابة في صفوف معاوية وتذكَّروا " قول رسول الله ﷺ عن عمار :" تقتله الفئة الباغية " " وأخذوا يتركون جيش معاوية واحداً بعد الآخر، فذهب عمرو بن العاص إلى معاوية وقال : لقد فشَتْ في الجيش فاشية، إنْ هي استمرتْ فلن يبقى معنا رجل واحد، فقال معاوية : وما هي؟ قال : يقولون : إننا قتلنا عماراً والنبي ﷺ قال عنه :" تقتله الفئة الباغية ".