وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :﴿ تُجْزِي عَنْك وَلَا تُجْزِي عَنْ غَيْرِك ﴾.
وَمَعْنَاهُ : تَقْضِي عَنْك ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ جَزَى عَنِّي كَذَا بِمَعْنَى قَضَى عَنِّي، وَالْقَضَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ وَاجِبٍ فَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ الْوُجُوبَ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ :" فَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ أُضْحِيَّتَهُ " وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بُرْدَةَ :﴿ أَعِدْ أُضْحِيَّتَك ﴾، وَمَنْ يَأْبَى ذَلِكَ يَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :﴿ مَنْ صَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَشَهِدَ مَعَنَا فَلْيَذْبَحْ ﴾ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِيجَابَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِشُهُودِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلَمَّا عَمَّ الْجَمِيعَ وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ النَّدْبَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ :﴿ تُجْزِي عَنْك ﴾ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ جَوَازَ قُرْبَةٍ، وَالْجَوَازُ وَالْقَضَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا جَوَازُ قُرْبَةٍ، وَالْآخَرُ جَوَازُ فَرْضٍ، فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ إطْلَاقِ لَفْظِ الْجَوَازِ وَالْقَضَاءِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بُرْدَةَ قَدْ كَانَ أَوْجَبَ الْأُضْحِيَّةَ نَذْرًا، فَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ، فَإِذًا لَيْسَ فِيمَا خَاطَبَ بِهِ أَبَا بُرْدَةَ دَلَالَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَ بِعُمُومِ لَفْظٍ فِي إيجَابِهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ.
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَرَادَ الْقَضَاءَ عَنْ وَاجِبٍ لَسَأَلَهُ عَنْ قِيمَتِهِ لِيُوجِبَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ.