وبعد أن حدَّثنا ربنا عز وجل عن الإلهيات وعن الرسل التي تُبلِّغ عنه سبحانه، يُحدثنا عن المنهج الذي سيأتون به لينظم حركة حياتنا، هذا المنهج موجز في افعل كذا، ولا تفعل كذا، وهو لا يشمل في أوامره ونواهيه كل حركات الحياة. فالأوامر والنواهي محصورة في عِدَّة أمور، والباقي مباح ؛ لأن الله تعالى وضع الأوامر والنواهي في الأصول التي تعصم حركة الحياة من الأهواء والنزوات، وترك الباقي لاختيارك تفعله على أيِّ وجه تريد.
لذلك نرى العلماء يجتهدون ويختلفون في مثل هذه الأمور التي تركها الله لنا، ولو أراد سبحانه لأنزل فيها حكماً محكماً، لا يختلف عليه أحد. ولك أن تقول : ولماذا ترك الحق سبحانه هذه الأمور تتضارب فيها الأقوال، وتختلف فيها الآراء، وتحدث فيها نزاعات بين الناس؟
قالوا : هذا مراد الله ؛ لأن الله تعالى خلق الإنسان مُسخَّراً في أشياء، ومختاراً في أشياء أخرى، فللناس أن يتركوا المجتهد يجتهد ما وسعه الاجتهاد، ثم يحكمون على ما وصل إليه أنه حق، وآخر يجتهد ويقررون أنه باطل ؛ لأن الله لو أراده على لون واحد لقاله، إنما تركه محتملاً للآراء.
إذن : أراد سبحانه أن تكون هذه الآراء لأن الإنسان كما هو محكوم بقهر في كثير من الكونيات وله اختيار في بعض الأمور، كذلك الحال في التكليف، فهو مقهور في الأصول التي لو حاد عنها يفسد العالم، ومختار في أمور أخرى يصحّ فِعْلها ويصحّ تَرْكها. أ هـ ﴿تفسير الشعراوى صـ ﴾