« ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ».
وهنا فى هذه الآية ـ وهو موضع العجب والدّهش والانبهار لهذا الإعجاز ـ هنا تتحرك النطفة نحو غايتها إلى أن تكون مولودا بشرا.. يتنقّل من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى هيكل عظمى معرّى من اللحم.. إلى هيكل بشرى يكسوه اللحم.. إلى جنين.. ثم طفل..
وهذه الأطوار، هى فى الواقع انطلاقة لهذه النطفة، وإظهار لما فى كيانها..!
وعلى هذا، فقد كان من المتوقع أن تكون هذه التحركات للنطفة من باب « الجعل » لا « الخلق » لأن النطفة ذاتها « مجعولة » وكل ما تعطيه هو من « المجعول » أيضا..
ولكن النظم القرآنى، خالف هذا، وجاء بالتعبير عن « الجعل » بلفظ « الخلق ».
فالنطفة لم تجعل علقة، وإنما خلقت علقة.. « ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً.. »
والعلقة لم تجعل مضغة، وإنما خلقت مضغة.. « فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً.. »
وهكذا المضغة، لم تجعل عظاما، وإنما خلقت عظاما.. « فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً.. »
فما سر هذا؟ بل ما أسرار هذا؟ وماذا وراءه؟
السرّ فى هذا ـ واللّه أعلم ـ أن كلّ عملية من هذه العمليات، هى خلق جديد، لا يملكه إلا الخالق جل وعلا، وهو مما استأثر به سبحانه وتعالى وحده، فسمّى ذاته « الخالق » وأبى على خلقه أن يشاركوه فى هذه الصفة..
ومعنى هذا، أنه لا يمكن للإنسانية كلها ـ وإن اجتمعت ـ أن تنتقل بالإنسان فى هذه الأطوار من طور إلى طور.. وأن قدرة الناس ـ ولو اجتمعت ـ لا تستطيع أن تنتقل بالنطفة إلى العلقة، ولا بالعلقة إلى المضغة.. وهكذا..
إنها جميعها ـ كما قرر القرآن ـ عمليات « خلق »، استأثر بها الخالق..
وإنها لمعجزة قرآنية متحدية، قائمة على التحدي فى كل زمان ومكان.. وإنه لن يأتى العلم أو العلماء ـ مهما بلغ العلم، واجتهد العلماء ـ بما يقف لهذه المعجزة المتحدية، على مدى الأزمان.


الصفحة التالية
Icon