" أقيموا الحدود " أمر بإقامة الحد فحمل هذا اللفظ على رفع الواقعة إلى الإمام عدول عن الظاهر، أقصى ما في الباب أنه ترك الظاهر في قوله فاجلدوا، لكن لا يلزم من ترك الظاهر هناك تركه ههنا، أما قوله :" فليجلدها " المراد هو التعزير فباطل لأن الجلد المذكور عقيب الزنا لا يفهم منه إلا الحد وثانيها : أن السلطان لما ملك إقامة الحد عليه فسيده به أولى لأن تعلق السيد بالعبد أقوى من تعلق السلطان به، لأن الملك أقوى من عقد البيعة، وولاية السادة على العبيد فوق ولاية السلطان على الرعية، حتى إذا كان للأمة سيد وأب فإن ولاية النكاح للسيد دون الأب، ثم إن الأب مقدم على السلطان في ولاية النكاح فيكون السيد مقدماً على السلطان بدرجات فكان أولى، ولأن السيد يملك من التصرفات في هذا المحل ما لا يملكه الإمام فثبت أن المولى أولى وثالثها : أجمعنا على أن السيد يملك التعزير فكذا الحد، لأن كل واحد نظير الآخر وإن كان أحدهما مقدراً والآخر غير مقدر، واحتج أبو بكر الرازي على مذهب أبي حنيفة بوجوه : أحدها : قال قوله تعالى :﴿الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ﴾ لا شك أنه خطاب مع الأئمة دون عامة الناس، فالتقدير فاجلدوا أيها الأئمة والحكام كل واحد منهما مائة جلدة، ولم يفرق في هذه الآية بين المحدودين من الأحرار والعبيد، فوجب أن تكون الأئمة هم المخاطبون بإقامة الحدود على الأحرار والعبيد دون الموالي وثانيها : أنه لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه، فلو رجعوا عن شهادتهم لوجب أن يتمكن من تضمين الشهود، لأن تضمين الشهود يتعلق بحكم الحاكم بالشهادة، لأنه لو لم يكن يحكم بشهادتهم لم يضمنوا شيئاً فكان يصير حاكماً لنفسه بإيجاب الضمان عليهم وذلك باطل لأنه ليس لأحد من الناس أن يحكم لنفسه.


الصفحة التالية
Icon