إذا ثبت هذا فنقول إن للإنسان بصراً وبصيرة فالبصر هو العين الظاهرة المدركة للأضواء والألوان، والبصيرة هي القوة العاقلة وكل واحد من الإدراكين يقتضي ظهور المدرك، فكل واحد من الإدراكين نور إلا أنهم عددوا لنور العين عيوباً لم يحصل شيء منها في نور العقلي، والغزالي رحمه الله ذكر منها سبعة، ونحن جعلناها عشرين الأول : أن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها، أما أنها لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها فلأن القوة الباصرة وإدراك القوة الباصرة ليسا من الأمور المبصرة بالعين الباصرة، وأما آلتها فهي العين، والقوة الباصرة بالعين لا تدرك العين، وأما القوة العاقلة فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها وتدرك آلتها في الإدراك وهي القلب والدماغ، فثبت أن نور العقل أكمل من نور البصر الثاني : أن القوة الباصرة لا تدرك الكليات والقوة العاقلة تدركها، ومدرك الكليات وهو القلب أشرف من مدرك الجزئيات، أما أن القوة الباصرة لا تدرك الكليات فلأن القوة الباصرة لو أدركت كل ما في الوجود فهي ما أدركت الكل لأن الكل عبارة عن كل ما يمكن دخوله في الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل، وأما أن القوة العاقلة تدرك الكليات فلأنا نعرف أن الأشخاص الإنسانية مشتركة في الإنسانية ومتمايزة بخصوصياتها، وما به المشاركة غير ما به الممايزة، فالإنسانية من حيث هي إنسانية أمر مغاير لهذه المشخصات فقد عقلنا الماهية الكلية، وأما أن إدراك الكليات أشرف فلأن إدراك الكليات ممتنع التغير، وإدراك الجزئيات واجب التغير، ولأن إدراك الكلي يتضمن إدراك الجزئيات الواقعة تحته، لأن ما ثبت للماهية ثبت لجميع أفرادها ولا ينعكس، فثبت أن الإدراك العقلي أشرف الثالث : الإدراك الحسي غير منتج والإدراك العقلي منتج فوجب أن يكون العقل أشرف، أما كون الإدراك الحسي غير منتج فلأن من أحس بشيء لا يكون ذلك الإحساس سبباً لحصول إحساس آخر له،


الصفحة التالية
Icon