أما أن الإدراك الحسي لا يتسع لها فلأن البصر إذا توالى عليه ألوان كثيرة عجز عن تمييزها، فأدرك لوناً كأنه حاصل من اختلاط تلك الألوان ( و ) السمع إذا توالت عليه كلمات كثيرة التبست عليه تلك الكلمات ولم يحصل التمييز، وأما أن الإدراك العقلي متسع لها فلأن كل من كان تحصيله للعلوم أكثر كانت قدرته على كسب الجديد أسهل، وبالعكس وذلك يوجب الحكم بأن الإدراك العقلي أشرف الخامس : القوة الحسية إذا أدركت المحسوسات القوية ففي ذلك الوقت تعجز عن إدراك الضعيفة، فإن من سمع الصوت الشديد ففي تلك الحالة لا يمكنه أن يسمع الصوت الضعيف والقوة العقلية لا يشغلها معقول عن معقول السادس : القوى الحسية تضعف بعد الأربعين، وتضعف عند كثرة الأفكار التي هي موجباً لاستيلاء النفس على البدن الذي هو موجب لخراب البدن، والقوى العقلية تقوى بعد الأربعين وتقوى عند كثرة الأفكار الموجبة لخراب البدن، فدل ذلك على استغناء القوة العقلية عن هذه الآلات واحتياج القوى الحسية إليها السابع : القوة الباصرة لا تدرك المرئي مع القرب القريب ولا مع البعد البعيد، والقوة العقلية لا يختلف حالها بحسب القرب والبعد، فإنها تترقى إلى ما فوق العرش وتنزل إلى ما تحت الثرى في أقل من لحظة واحدة، بل تدرك ذات الله وصفاته مع كونه منزهاً عن القرب والبعد والجهة فكانت القوة العقلية أشرف الثامن : القوة الحسية لا تدرك من الأشياء إلا ظواهرها فإذا أدركت الإنسان فهي في الحقيقة ما أدركت الإنسان لأنها ما أدركت إلا السطح الظاهر من جسمه، وإلا اللون القائم بذلك السطح، وبالاتفاق فليس الإنسان عبارة عن مجرد السطح واللون فالقوة الباصرة عاجزة عن النفوذ في الباطن، أما القوة العاقلة فإن باطن الأشياء وظاهرها بالنسبة إليها على السواء فإنها تدرك البواطن والظواهر وتغوص فيها وفي أجزائها، فكانت القوة العاقلة نوراً بالنسبة إلى الباطن والظاهر، أما القوة الباصرة فهي