وكذا ما قيل : إن "بين ذلك" أعم من القوام بمعنى العدل الذي يكون نسبة كل واحد من طرفيه إليه على السواء فإن ما بين الاقتار والإسراف لا يلزم أن يكون قواماً بهذا المعنى إذ يجوز أن يكون دون الإسراف بقليل وفق الاقتار بقليل فإنه تكلف أيضاً إذ ما بينهما شامل لحاق الوسط وما عداه الكوسط من غير فرق ومثله لا يستعمل في المخاطبات لا لغازه، وقيل : لأنه بعد تسليم جواز الأخلار عن الأعم بالأخص يبعد أن يكون مدحهم بمراعاة حاق الوسط مع ما فيه من الحرج الذي نفي عن الإسلام.
وفيه أنه لا شك في جواز الأخبار عن الأعم بالأخص نحو الذي جاءني زيد والقائل لم يرد إلحاق الحقيقي بل التقريبي كما يذل عليه قوله بقليل ولا حرج في مثله فتأمل.
ولعل الأخبار عن إنفاقهم بما ذكر بعد قوله تعالى :﴿ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ﴾ المستلزم لكون إنفاقهم كذلك للتنصيص على أن فعلهم من خير الاْمور فقد شاع خير الأمور أوساطه، والظاهر أن المراد بالإنفاق ما يعم إنفاقهم على أنفسهم وإنفاقهم على غيرها والقوام في كل ذلك خير، وقد أخرج أحمد.
والطبراني.
عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ :" من فقه الرجل رفقه في معيشته "
وأخرج ابن ماجه في سننه عن أنس قال : ْقال رسول الله ﷺ " أن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت " وحكى عن عبد الملك بن مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز عليه الرحمة حين زوجه ابنته فاطمة ما نفقتك فقال له عمر : الحسنة بين السيئتين ثم تلا الآية.
وقد مدح الشعراء التوسط في الأمور والاقتصاد في المعيشة قديماً وحديثاً، ومن ذلك قوله :
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد...
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقول حاتم :
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله...
وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وقول الآخر :
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت...
ولم ينهها تافت إلى كل باطل
وساقت إليه الأثم والعار بالذي...
دعته إليه من حلاوة عاجل
إلى غير ذلك. أ هـ ﴿روح المعانى حـ ١٩ صـ ﴾