أما الخلق فبتصييره موجوداً بعد أن كان معدوماً، وأما الهداية فبتلك القوى الجذابة للمنافع والدفاعة للمضار فثبت أن قوله :﴿خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ كلمة جامعة حاوية لجميع المنافع في الدنيا والدين، ثم ههنا دقيقة وهو أنه قال :﴿خَلَقَنِى﴾ فذكره بلفظ الماضي وقال :﴿يَهْدِينِ﴾ ذكره بلفظ المستقبل، والسبب في ذلك أن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا، بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم.
أما هدايته تعالى فهي مما يتكرر كل حين وأوان سواء كان ذلك هداية في المنافع الدنيوية، وذلك بأن تحكم الحواس بتمييز المنافع عن المضار أو في المنافع الدينية وذلك بأن يحكم العقل بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر، فبين بذلك أنه سبحانه هو الذي خلقه بسائر ما تكامل به خلقه في الماضي دفعة واحدة، وأنه يهديه إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة وثانيها : قوله :﴿والذى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ﴾ وقد دخل فيه كل ما يتصل بمنافع الرزق، وذلك لأنه سبحانه إذا خلق له الطعام وملكه، فلو لم يكن معه ما يتمكن به من أكله والاغتذاء به نحو الشهوة والقوة والتمييز لم تكمل هذه النعمة، وذكر الطعام والشراب ونبه بذكرهما على ما عداهما وثالثها : قوله :﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ وفيه سؤال وهو أنه لم قال :﴿مرضات﴾ دون أمرضني ؟ وجوابه من وجوه : الأول : أن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك، ومن ثم قالت الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم ؟ لقالوا التخم الثاني : أن المرض إنما يحدث باستيلاء بعض الأخلاط على بعض، وذلك الاستيلاء إنما يحصل بسبب ما بينها من التنافر الطبيعي.


الصفحة التالية