عليه السّلام بالجحفة وهو متوجه من مكة إلى المدينة فقال أتشتاق يا محمد إلى بلدك التي ولدت فيها ؟ قال نعم، فأنزل اللّه (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ) إلخ وهذا وعد من اللّه إلى نبيّه بإعادته إلى بلده في الدنيا والآية التي قبلها تضمنت له الوعد بالعاقبة الحسنى بالآخرة، صرّح حضرة الرسول لأخيه جبريل بأنه مشتاق إلى وطنه، ولم يمض على مفارقته له ثلاثة أيام، لأن هذه الآية نزلت بعد الخروج من الغار بالمحل المذكور بين مكة والمدينة، وهذه أول بشارة من اللّه له وأول خير أخبر به بسبب الهجرة الشريفة التي جعلها اللّه فاتحة لفتح البلاد وإيمان العباد، ونصرة الدين، ولهذا المغزى روي حب الوطن من الإيمان، فكان صلّى اللّه عليه وسلم يكثر من قوله الوطن الوطن، قال عمر لولا حب الوطن لخرب بلد السوء، أي أن أحدا لا يسكن إلّا بالأحسن، فينشأ منه خرابه، وتترك البلاد الرديئة المناخ والقرى البعيدة عن العمران، وتنقطع فائدة الارتباط ويحرم الناس من خير كثير، إذ قد يوجد فيها ما لا يوجد في المدن الكبرى من خيرات ومعادن، مما يحتاجه البشر، لهذا فإنه جل شأنه غرز في قلوب عناده محبة أوطانهم مهما كانت، وحبب كل محل لأهله بحيث يخيرونه على غيره، ولا يركنون إلا إليه، حتى أن أهل القرى الآن لمّا يأتون إلى المدن لا يطيب لهم النوم بها مع أنها أحسن وألطف من قراهم، وفيها ما لا يوجد عندهم ولا يعرفونه فتراه يصرف جهده لإنجاز عمله ليذهب فينام عند أهله ولو كان الوقت ليلا أو حرا أو بردا، لحكمة أرادها اللّه، ولهذا فإن كل خلق يحن إلى وطنه الذي ولد فيه، وجعل ذلك طبيعة غريزية في خلقه، فترى الإبل تحن إلى مراحها، والطير إلى وكرها، والوحش إلى كناسها،
والحيتان لمياهها، والإنسان لوطنه، ولو كان نفعه ورزقه في غيره، فالسعيد من يوطن نفسه في حب اللّه وللّه در القائل :


الصفحة التالية
Icon