ولما كان في بيان الاقتدار على الأمور الهائلة من الأخذ بالخناق حتى يقول القائل : لا خلاص، ثم الإسعاف بالفرج حتى يقول : لا هلاك، قال واصفاً للرجل :﴿من أقصا المدينة﴾ أي أبعدها مكاناً، وبين أنه كان ماشياً بقوله :﴿يسعى﴾ ولكنه اختصر طريقاً وأسرع في مشيه بحيث كان يعدو فسبقهم بإعظامه للسعي وتجديد العزم في كل وقت من أوقات سعيه فكأنه قيل : ما فعل؟ فقيل :﴿قال﴾ منادياً له باسمه تعطفاً وإزالة للبس :﴿يا موسى﴾ وأكد إشارة إلى أن الأمر قد دهم فلا يسع الوقت الاستفصال فقال :﴿إن الملأ﴾ أي أشراف القبط الذين في أيديهم الحل والعقد، لأن لهم القدرة على الأمر والنهي ﴿يأتمرون بك﴾ أي يتشاورون بسببك، حتى وصل حالهم في تشاورهم إلى أن كلاًّ منهم يأمر الآخر ويأتمر بأمره، فكأنه قيل : لم يفعلون ذلك؟ فقيل :﴿ليقتلوك﴾ لأنهم سمعوا أنك قتلت صاحبهم ﴿فاخرج﴾ أي من هذه المدينة ؛ ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرق من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك :﴿إني لك﴾ أي خاصة ﴿من الناصحين﴾ أي العريقين في نصحك ﴿فخرج﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام مبادراً ﴿منها﴾ أي المدينة لما علم من صدق قوله مما حفّه من القرائن، حال كونه ﴿خائفاً﴾ على نفسه من آل فرعون ﴿يترقب﴾ أي يكثر الالتفات بإدراة رقبته في الجهات ينظر هل يتبعه أحد ؛ ثم وصل به على طريق الاستئناف قوله :﴿قال﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام :﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ بالإيجاد والتربية وغير ذلك من وجوه البر ﴿نجني﴾ أي خلصني، مشتق من النجوة، وهو المكان العالي الذي لا يصل إليه كل أحد ﴿من القوم الظالمين﴾ أي الذين يضعون الأمور في غير مواضعها فيقتلون من لا يستحق القتل مع قوتهم، فاستجاب الله له فوفقه لسلوك الطريق الأعظم نحو مدين، فكان ذلك سبب نجاته، وذلك أن الذين انتدبوا إليه قطعوا بأنه لا يسلك الطريق الأكبر، جرياً على عادة الخائفين الهاربين في المشي


الصفحة التالية
Icon