ولما كان من التذكر ما دل عليه مجر العقل، ومنه ما انضم إليه مع ذلك العقل، وكان صاحب هذا القسم أجدر بأن يتبصر، وكان كأنه قيل : هل تذكروا؟ قيل : نعم أهل الكتاب الذين هم أهله حقاً تذكروا حقاً، وذلك معنى قوله :﴿الذين آتيناهم﴾ أي بعظمتنا التي حفظناهم بها ﴿الكتاب﴾ أي العلم من التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الأنبياء، وهم يتلون ذلك حق تلاوته، في بعض الزمان الذي كان ﴿من قبله﴾ أي القرآن ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿به﴾ أي القرآن، لا بشيء مما يخالفه ﴿يؤمنون﴾ أي يوقعون الإيمان به في حال وصوله إليهم إيماناً لا يزال يتجدد ؛ ثم أكد هذا المعنى بقوله :﴿وإذا يتلى﴾ أي تتجدد تلاوته ﴿عليهم قالوا﴾ مبادرين :﴿آمنا به﴾ ثم عللوا ذلك بقولهم الدال على غاية المعرفة، مؤكدين لأن من كان على دين لا يكاد يصدق رجوعه عنه، فكيف إذا كان أصله حقاً من عند الله، ﴿إنه الحق﴾ أي الكامل الذي ليس وراءه إلا الباطل، مع كونه ﴿من ربنا﴾ المحسن إلينا، وكل من الوصفين موجب للتصديق والإيمان به ؛ ثم عللوا مبادرتهم إلى الإذعان منبهين على أنهم في غاية البصيرة من أمره بأنهم يتلون ما عندهم حق تلاوته، لا بألسنتهم فقط، فصح قولهم الذي دل تأكيدهم له على اغتباطهم به الموجب لشكره :﴿إنا كنا﴾ أي كوناً هو في غاية الرسوخ ؛ وأشار إلى أن من صح إسلامه ولو في زمن يسير أذعن لهذا الكتاب، بإثبات الجار، فقال :﴿من قبله مسلمين﴾ أي منقادين غاية الانقياد لما جاءنا من عند الله من وصفه وغير وصفه وافق هوانا وما ألفناه أو خالفه، لا جرم كانت النتيجة :﴿أولئك﴾ أي العالو الرتبة ﴿يؤتون﴾ بناه للمفعول لأن القصد الإيتاء، والمؤتى معروف ﴿أجرهم مرتين﴾ لإيمانهم به غيباً وشهادة، أو بالكتاب الأول ثم الكتاب الثاني ﴿بما صبروا﴾ على ما كان من الإيمان قبل العيان، بعدما هزهم إلى النزوع عنه إلف دينهم الذي كان، وغير ذلك من امتحان الملك الديان.


الصفحة التالية