ولما تسبب عن هذا الإخبار تشوف النفس إلى آثار هذه الديار، سبب عنه الإشارة بأداة البعد إلى منازلهم، تنبيهاً على كثرتها وسهولة الوصول إليها في كل مكان، لكونها بحيث يشار إليها وعلى بعد رتبتها في الهلاك دليلاً على الجملة التي قبلها فقال :﴿فتلك مساكنهم ﴾.
ولما كان المعنى أنها خاوية على عروشها وصل به قوله :﴿لم تسكن﴾ أي من ساكن ما مختار أو مضطر.
ولما كان المراد إفهام نفي قليل الزمان وكثيره، أثبت الجار فقال :﴿من بعدهم﴾ بعد أن طال ما تغالوا فيها ونمقوها، وزخرفوها وزوقوها، وزفوا فيها الأبكار، وفرحوا بالأعمال الكبار، ﴿إلا﴾ سكوناً ﴿قليلاً﴾ بالمارة عليها ساعة من ليل أو من نهار، ثم يصير تباباً موحشة كالقفار، بعد أن كانت متمنعة القبا، ببيض الصفاح وسمر القنا.
ولما صارت هذه الأماكن بعد الخراب لا متصرف فيها ظاهراً إلا الله، ولا حاكم عليها فيما تنظره العيون سواه، وكان هذا أمراً عظيماً، وخطباً جسيماً، لأنه لا فرق فيه بين جليل وحقير، وصغير وكبير، وسلطان ووزير، دل على ضخامته بقوله مكرراً لمظهر العظمة :﴿وكنا﴾ أي أزلاً وأبداً ﴿نحن﴾ لا غيرنا ﴿الوارثين﴾ لم يستعص علينا أحد وإن عظم، ولا تأخر عن مرادنا لحظة وإن ضخم، فليت شعري! أين أولئك الجبارون وكيف خلا دورهم، وعطل قصورهم؟ المتكبرون أفنتهم والله كؤوس الحمام منوعة أشربة المصائب العظام، وأذلتهم مصارع الأيام، بقوة العزيز العلام، فيا ويح من لم يعتبر بأيامهم، ولم يزدجر عن مثل آثامهم.


الصفحة التالية
Icon