في حكمة افتتاح هذه السورة بحروف من التهجي، ولنقدم عليه كلاماً كلياً في افتتاح السور بالحروف فنقول : الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو من يكون مشغول البال بشغل من الأشغال يقدم على الكلام المقصود شيئاً غيره ليلتفت المخاطب بسببه إليه ويقبل بقلبه عليه، ثم يشرع في المقصود.
إذا ثبت هذا فنقول ذلك المقدم على المقصود قد يكون كلاماً له معنى مفهوم، كقول القائل اسمع، واجعل بالك إلي، وكن لي، وقد يكون شيئاً هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل أزيد ويازيد وألا يازيد، وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتاً غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه، وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه.
ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والكلام المقصود كان أهم، كان المقدم على المقصود أكثر.
ولهذا ينادي القريب بالهمزة فيقال أزيد والبعيد بيا فيقال يا زيد، والغافل ينبه أولاً فيقال ألا يا زيد.
إذا ثبت هذا فنقول إن النبي ﷺ وإن كان يقظان الجنان لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن فكان يحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبهات، ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف التي لها معنى، لأن تقديم الحروف إذا كان لإقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعد ذلك فإذا كان ذلك المقدم كلاماً منظوماً وقولا مفهوماً فإذا سمعه السامع ربما يظن أنه كل المقصود ولا كلام له بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه.


الصفحة التالية
Icon