وقد روى ابن عباس " أن النبيّ ﷺ قال للمؤمنين بمكة حين أذاهم المشركون :"اخرجوا إلى المدينة وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة" " قالوا : ليس لنا بها دار ولا عقار ولا من يطعمنا ولا من يسقينا.
فنزلت :﴿ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ أي ليس معها رزقها مدّخراً، وكذلك أنتم يرزقكم الله في دار الهجرة.
وهذا أشبه من القول الأوّل.
وتقدّم الكلام في ﴿ كَأَيِّنْ ﴾ وأن هذه ﴿ أَيّ ﴾ دخلت عليها كاف التشبيه وصار فيها معنى كم.
والتقدير عند الخليل وسيبويه كالعدد.
أي كشيء كثير من العدد من دابة.
قال مجاهد : يعني الطير والبهائم تأكل بأفواهها ولا تحمل شيئاً.
الحسن : تأكل لوقتها ولا تدّخر لغد.
وقيل :﴿ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ﴾ أي لا تقدر على رزقها ﴿ اللَّهُ يَرْزُقُهَا ﴾ أينما توجهت ﴿ وَإِيَّاكُمْ ﴾.
وقيل : الحمل بمعنى الحمالة.
وحكى النقاش : أن المراد النبيّ ﷺ يأكل ولا يدّخر.
قلت : وليس بشيء ؛ لإِطلاق لفظ الدابة، وليس مستعملاً في العرف إطلاقها على الآدمي فكيف على النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد مضى هذا في "النمل" عند قوله :﴿ وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأرض تُكَلِّمُهُمْ ﴾ [ النمل : ٨٢ ] قال ابن عباس : الدوابّ هو كل ما دبّ من الحيوان، فكله لا يحمل رزقه ولا يدخر إلا ابن آدم والنمل والفأر.
وعن بعضهم رأيت البلبل يحتكر في مِحْضَنه.
ويقال للعقعق مخابىء إلا أنه ينساها.
﴿ الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ يسوّي بين الحريص والمتوكل في رزقه، وبين الراغب والقانع، وبين الحَيُول والعاجز حتى لا يغتر الجلِد أنه مرزوق بجلَده، ولا يتصوّر العاجز أنه ممنوع بعجزه.