ولما كان الخلق لقصورهم مقيدين بما لهم به نوع مشاهدة قال :﴿في السماوات والأرض﴾ اللتين خلقهما ولم تستعصيا عليه، فكيف يستعصي عليه شيء فيهما، وقد قالوا : إن المراد بالمثل هنا الصفة، وعندي أنه يمكن أن يكون على حقيقته تقريباً لعقولنا، فإذا أردنا تعرفه سبحانه في الملك مثلنا بأعلى ما نعلم من ملوكنا فنقول : الاستواء على العرش مثل للتدبير والتفرد بالملك كما يقال في ملوكنا : فلان جلس على سرير الملك، بمعنى : استقل بالأمر وتفرد بالتدبير وإن لم يكن هنا سرير ولا جلوس، وإذا ذكر بطشه سبحانه وأخذه لأعدائه في نحو قوله تعالى :﴿يد الله فوق أيديهم﴾ [ الفتح : ١٠ ] ﴿إن بطش ربك لشديد﴾ [ البروج : ١٢ ] مثلناه بما لو قهر سلطان أعدائه بحزمه وصحة تدبيره وكثرة جنوده فقلنا " محق سيفه أعداءه " فأطلقنا سيفه على ما ذكر من قوته، وإذا قيل : تجري بأعيننا، ونحو ذلك علمنا أنه مثل ما نقول إذا رأينا ملكاً حسن التدبير لا يغفل عن شيء من أحوال رعيته فقلنا " هو في غاية اليقظة " فأطلقنا اليقظة التي هي ضد النوم على حسن النظر وعظيم التدبير وشمول العلم، وهذه تفاصيل مما قدمت أنه مثله، وهو أمره المحيط الذي انجلى لنا به غيب ذاته سبحانه، وهكذا ما جاء من أمثاله نأخذ من العبارة روحها فنعلم أنه المراد، وأن ذلك الظاهر ما ذكر إلا تقريباً للأفهام النقيسة على ما نعرف من أعلى الأمثال، والأمر بعد ذلك أعلى مما نعلم، ولذلك قال تعالى :﴿وهو﴾ أي وحده ﴿العزيز﴾ أي الذي إذا أراد شيئاً كان له في غاية الانقياد كائناً ما كان ﴿الحكيم﴾ أي الذي إذا أراد شيئاً أتقنه فلم يقدر غيره على التوصل إلى نقص شيء منه، ولا تتم حكمة هذا الكون على هذه الصورة إلا بالبعث، بل هو محط الحكمة الأعظم ليصل كل ذي حق إلى حقه بأقصى التحرير على ما نتعارفه وإلا لكان الباطل أحق من الحق وأكثر، فكان عدم هذا الموجود خيراً من وجوده وأحكم. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٥ صـ ٦١٧ ـ ٦١٨﴾


الصفحة التالية
Icon