ولما ختم بصفتي العزة - وهي غاية القدرة - والحكمة - وهي ثمرة العلم - دل عليها باتقان أفعاله وإحكامها فقال :﴿خلق السماوات﴾ أي على علوها وكبرها وضخامتها ﴿بغير عمد﴾ وقوله :﴿ترونها﴾ دال على الحكمة، إن قلنا إنه صفة لعمد أو استئناف، إما أن قلنا بالثاني فلكون مثل هذا الخلق الكبير الواسع يحمل بمحض القدرة، وإن قلنا بالأول فتركيب مثله على عمد تكون في العادة حاملة له وهي مع ذلك بحيث لا ترى أدخل في الحكمة وأدق في اللطافة والعظمة، لأنه يحتاج إلى عملين : تخفيف الكثيف وتقوية اللطيف.
ولما ذكر العمد المقلة، اتبعه الأوتاد المقرة فقال :﴿وألقى في الأرض﴾ أي التي أنتم عليها، جبالاً ﴿رواسي﴾ والعجب من فوقها وجميع الرواسي التي تعرفونها تكون من تحت، تثبتها عن ﴿أن تميد﴾ أي تتمايل مضطربة ﴿بكم﴾ كما هو شأن ما على ظهر الماء.
ولا ذكر إيجادها وإصلاحها للاستقرار.
ذكر ما خلقت له من الحيوان فقال :﴿وبث فيها﴾ أي فرق ﴿من كل دابة﴾ ولما ذكر ذلك ذكر ما يعيش به، فقال منبهاً لمظهر العظمة على أن ذلك وإن كان لهم في بعضه تسبب لا يقدر عليه إلا هو سبحانه :﴿وأنزلنا﴾ أي بما لنا من العزة اللازمة للقدرة، وقدم ما لا قدرة لمخلوق عليه بوجه فقال :﴿من السماء ماء﴾ ولما تسبب عن ذلك تدبير الأقوات، وكان من آثار الحكمة التابعة للعمل، دل عليه بقوله :﴿فأنبتنا﴾ أي بما لنا من العلو في الحكمة ﴿فيها﴾ أي الأرض بخلط الماء بترابها ﴿من كل زوج﴾ أي صنف من النبات متشابه ﴿كريم﴾ بما له من البهجة والنضرة الجالبة للسرور والمنفعة والكثرة الحافظة لتلك الدواب.