فصل


قال الفخر :
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
لما استدل بقوله تعالى :﴿خُلِقَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾ على الوحدانية، وبين بحكاية لقمان أن معرفة ذلك غير مختصة بالنبوة بل ذلك موافق للحكمة، وما جاء به النبي عليه السلام من التوحيد والصلاة ومكارم الأخلاق كلها حكمة بالغة، ولو كان تعبداً محضاً للزم قبوله، فضلاً عن أنه على وفق الحكمة، استدل على الوحدانية بالنعمة لأنا بينا مراراً أن الملك يخدم لعظمته، وإن لم ينعم ويخدم لنعمته أيضاً، فلما بين أنه المعبود لعظمته بخلقه السموات بلا عمد وإلقائه في الأرض الرواسي.
وذكر بعض النعم بقوله :﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء﴾ [ لقمان : ١٠ ] ذكر بعده عامة النعم فقال :﴿سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السموات﴾ أي سخر لأجلكم ما في السموات، فإن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمر الله وفيها فوائد لعباده، وسخر ما في الأرض لأجل عباده، وقوله :﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة﴾ وهي ما في الأعضاء من السلامة ﴿وَبَاطِنَةً﴾ وهي ما في القوى فإن العضو ظاهر وفيه قوة باطنة، ألا ترى أن العين والأذن شحم وغضروف ظاهر، واللسان والأنف لحم وعظم ظاهر، وفي كل واحد معنى باطن من الأبصار والسمع والذوق والشم، وكذلك كل عضو، وقد تبطل القوة ويبقى العضو قائماً، وهذا أحسن مما قيل فإن على هذا الوجه يكون الاستدلال بنعمة الآفاق وبنعمة الأنفس فقوله :﴿مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض﴾ يكون إشارة إلى النعم الآفاقية، وقوله :﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً﴾ يكون إشارة إلى النعم الأنفسية، وفيهما أقوال كثيرة مذكورة في جميع كتب التفاسير، ولا يبعد أن يكون ما ذكرناه مقولاً منقولاً، وإن لم يكن فلا يخرج من أن يكون سائغاً معقولاً.


الصفحة التالية
Icon