وأنت تشاهد هذه المظاهر إذا كنتَ في عرض البحر، فترى الموجة من بعيد أعلى منك، وأنها حتماً ستطمسك، حتى إذا ما وصلتْ إليك شاهدتَ فيها مظهراً من لطف الله بك، حيث تتلاشى وتمر من تحتك بسلام، وهذا شيء عجيب ونعمة تستوجب الشكر.
فالموج إذن شيء مخيف ؛ لذلك لما غشيهم وأيقنوا الهلاك ﴿ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين.. ﴾ [ لقمان : ٣٢ ] دعوا الله رغم أنهم كافرون به، لكن المرء في مثل هذه الحال لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، فالأمر جد، فلم يدعوا اللات أو العزى، ولم يقُلْ أحد منهم يا هبل، إنما دعوا الله بإخلاص لله، فإنْ كانوا ملتفتين لدين آخر في عبادة الأصنام، ففي هذا الموقف لا بُدَّ أن يُخلصوا لله ؛ لأنهم واثقون أن الأصنام لن تنفعهم، وأنها لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولن يكون النفع وكشف البلاء إلا من الله الحق.
فإنْ قُلْتَ : ما دام الأمر كذلك، فما الذي صرفهم عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام.
قلنا : إن التديُّن طبيعة في النفس البشرية، وهذه الطبيعة باقية في ذرات كل إنسان منذ خلق الله آدم، وأخذ من صُلْبه ذريته، وأشهدهم على أنفسهم ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ... ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] فشهدوا.
فكل واحد منا فيه ذرة شهدتْ هذا العهد، وهذه الذرة هي مصدر الإشراقات في نفس المؤمن، وعليه أنْ يحافظ عليها بأن يأخذ قانون صيانة هذه الذرة ممن خلقها، لا أنْ يطمس نورها بمخالفة قانون صيانته الذي وضعه له ربه - عز وجل - فيكون كمَنْ قال الله فيه :﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى ﴾ [ طه : ١٢٤ ]
النبي ﷺ يُوضح لنا هذه المسألة بقوله :" كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصرِّانه أو، يُمجِّسانه ".