وفي هذه الآية دليل على أن سكوت النبي ﷺ على الفعل الواقع بحضرته إذا كان تعدياً على حق لذاته لا يدل سكوته فيه على جواز الفعل لأن له أن يسامح في حقه، ولكن يؤخذ الحظر أو الإِباحة في مثله من أدلة أخرى مثل قوله تعالى هنا :﴿ إن ذلكم كان يؤذي النبي ﴾ ولذلك جزم علماؤنا بأن من آذى النبي ﷺ بالصراحة أو الالتزام يعزر على ذلك بحسب مرتبة الأذى والقصدِ إليه بعد توقيفه على الخفي منه وعدم التوبة مما تقبل في مثله التوبة منه.
ولم يجعلوا في إعراض النبي عليه الصلاة والسلام عن مؤاخذة من آذاه في حياته دليلاً على مشروعية تسامح الأمة في ذلك لأنه كان له أن يعفو عن حقه لقوله تعالى :﴿ فاعف عنهم ﴾ [ المائدة : ١٣ ] وقوله :﴿ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ].
فهذا ملاك الجمع بين الإِيذاء والاستحياءِ والحقّ في هذه الآية، فقد تولى الله تعالى الذبّ عن حق رسوله وكفاه مؤونة المضض الداعي إليه حياؤه.
وقد حقق هذا المعنى وما يحف به القاضي أبو الفضل عياض في تضاعيف القسم الرابع من كتابه "الشفاء".
فإن قلت : ورد في الحديث عن أنس أن النبي ﷺ خرج من البيت ليقومَ الثلاثةُ الذين قعَدُوا يتحدثون، فلماذا لم يأمرهم بالخروج بدلاً من خروجه هو.
قلت : لأن خروجه غيرُ صريح في كراهية جلوسهم لأنه يحتمل أن يكون لغرض آخر، ويحتمل أن يكون لقصد انفضاض المجلس فكان من واجب الألمعية أن يخطر ببالهم أحد الاحتمالين فيتحفزوا للخروج فليس خروجه عنهم بمناف لوصف حيائه صلى الله عليه وسلم


الصفحة التالية
Icon