ولما أريد التصريح بالتعميم قال :﴿والجبال﴾ ولأن أكثر المنافع فيها ﴿فأبين﴾ على عظم أجرامها وقوة أركانها وسعة أرجائها ﴿أن يحملنها﴾ فيمنعها ويحبسنها عن أهلها، قال الزمخشري : من قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، أي لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها، ألا تراهم يقولون : ركبته الديون ولي عليه حق، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملاً لها ﴿وأشفقن منها﴾ فبدل كل منهن ما أودعه الله فيه في وقته كما أراده الله، وهو معنى : أتينا طائعين، والحاصل أنه جعلت الإرادة وهي الأمر التكويني في حق الأكوان لكونها لا تعقل كالأمر التكليفي التكويني في حقنا لأنا نعقل تمييزاً بين من يعقل ومن لا يعقل في الحكم، كما ميز بينهما في الفهم إعطاءً لكل منهما ما يستحقه رتبته - وهذا هو معنى ما نقله البغوي عن الزجاج وغيره من أهل المعاني، وما أحسن ما قاله النابغة زياد بن معاوية الذبياني حيث قال :
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي...
على خوف تظن بي الظنون
فألفيت الأمانة لم تخنها...
كذلك كان نوح لا يخون
قال ابن الفرات : إن عمر ـ رضى الله عنه ـ قال لما قيل له إن النابغة قائلهما : هو أشعر شعرائكم.
ولما كان الخائن أكثر من الأمين أضعافاً مضاعفة، وكانت النفس بما أودع فيها من الشهوات والحظوظ محل النقائص، قال تعالى :﴿وحملها الإنسان﴾ أي أكثر الناس والجن، فإن الإنسان الأنس، والإنس والأناس الناس، وقد تقدم في ﴿ولا تبخسوا الناس أشياءهم﴾ [ الأعراف : ٨٥ ] في الأعراف أن الناس يكون من الإنس ومن الجن، وأنه جمع إنس وأصله أناس، والإسناد إلى الجنس لا يلزم منه أن يكون كل فرد منه كذلك، فهو هنا باعتبار الأغلب، وفي التعبير به إشارة إلى أنه لا يخون إلا من هو في أسفل الرتب لم يصل إلى حد النوس.