والمراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، هو ظهور خطرها بهذه المكونات، وفظاعة الخيانة فيها، وإشفاق كل من خطر تحملها، وإبائهن ذلك لو كن مما يعقلن، مع أنهن أقوى أجساماً، وأعظم ثباتاً، وأصبر على طوارئ الحدثان، تخوفاً من أن يطغين في أمرها أو يعصين في شأنها، وإن الْإِنْسَاْن، مع ضعفه بالنسبة لهن، حملها وما حفظها ولا رعاها، واجترأ مع ضعفه على ما أشفق منه ما هو أقوى منه. فما أظلمه وما أجهله ! والقصد رميه بالظلم والجهل، وجراءته على الخيانة وعدم مبالاته بما ترهب منه السماوات والأرض والجبال، فيا لله ما أطغاه ! فذكر هذه الأجرام الكبيرة تهويل لخطر الأمانة، وأنهن لو عقلن لكان منهن ما كان. ونظير هذه الآية في ذكر هؤلاء الثلاثة قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً ﴾ [ مريم : ٨٨ - ٩١ ]، وحقاً أن سبك المعنى المذكور في قالب هذا النظم البديع لمعجزة من معجزات التنزيل، وخارق من خوارقه في باب البلاغة ؛ فإن أسلوبه في إفراغ المعاني في أرق الألفاظ وأفخم التراكيب، أسلوبٌ انفرد به عن كل كلام. وبه يعلم أن من بحث في كيفية العرض عليهن، هل كان بإيداع عقل فيهن أوْ لا ؟ [ في المطبوع : أولا ]، وفي تعيين زمانه، وفي كيفية إبائهن وإشفاقهن، وفي معنى لوم الْإِنْسَاْن، ورميه بالظلم والجهل، بعد ما عرضت عليه، وأن ظاهره التخيير إلى غير ذلك - كله فلسفة لفظية، ولّدها عشاق الظواهر والألفاظ، الولعون في الغلو بمفرداتها، وصرف الوقت فيها جعل ذلك منتهى قصدهم ومبلغ علمهم. فضاع عليهم المعنى ولم يهتدوا إليه - ولن يجدوا إليه سبيلاً ما دام هذا سبيلهم - والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. أ هـ ﴿محاسن التأويل حـ ١٣ صـ ٧١٢ ـ ٧١٨﴾