والثالث : لما دنوا إلى باب الجنة واغتسلوا بماء الحياة ونظروا إلى الجنة قالوا :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا﴾ (الأعراف : ٤٣).
والرابع : لما دخلوا الجنة واستقبلتهم الملائكة بالتحية قالوا :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَا إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ﴾ (فاطر : ٣٥).
والخامس : حين استقروا في منازلهم قالوا :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه وَأَوْرَثَنَا الارْضَ﴾ (الزمر : ٧٤).
والسادس : كلما فرغوا من الطعام قالوا :﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة : ١).
والفرق بين الحمدين مع كون نعمتي الدنيا والآخرة بطريق التفضل أن الأول على نهج العبادة والثاني على وجه التلذذ كما يتلذذ العطشان بالماء البارد لا على وجه الفرض والوجوب وقد ورد في الخبر "إنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النَفَس"
يقول الفقير : فيه نظر لأن الآخرة المطلقة كالعاقبة الجنة مع أن المقام يقتضي أن يكون ذلك من ألسنة أهل الفضل إذ لا اعتبار بحال أهل العدل كما لا يخفى ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾ الذي أحكم أمور الدين والدنيا ودبرها حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة ﴿الْخَبِيرُ﴾ بليغ الخبرة والعلم ببواطن الأشياء ومكنوناتها ثم بين كونه خبيراً فقال :
﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأرْضِ﴾ الولوج الدخول في مضيق أي : يعلم ما يدخل فيها من البزور والغيث ينفذ في موضع وينبع من آخر والكنوز والدفائن والأموات والحشرات والهوام ونحوها وأيضاً يعلم ما يدخل في أرض البشرية بواسطة الحواس الخمس والأغذية الصالحة والفاسدة من الحلال والحرام.
﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ كالحيوان من جُحره والزرع والنبات وماء العيون والمعادن والأموات عند الحشر ونحوها وأيضاً ما يخرج من أرض البشرية من الصفات المتولدة منها والأعمال الحسنة والقبيحة.
﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ﴾ كالملائكة والكتب والمقادير والأرزاق والبركات والأمطار والثلوج والبرد والأنداء والشهب والصواعق ونحوها وأيضاً ما ينزل من سماء القلب من الفيوض الروحانية والإلهامات الربانية.
﴿وَمَا يَعْرُجُ﴾ يصعد ﴿فِيهَآ﴾ كالملائكة والأرواح الطاهرة والأبخرة والأدخنة والدعوات وأعمال العباد.
ولم يقل "إليها" لأن قوله تعالى :﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ (فاطر : ١٠) يشير إلى أن الله تعالى هو المنتهى لا السماء ففي ذكر "في" إعلام بنفوذ الأعمال فيها وصعودها منها.
وأيضاً وما يعرج في سماء القلب من آثار الفجور والتقوى وظلمة الضلالة ونور الهدى.
﴿وَهُوَ الرَّحِيمُ﴾ للحامدين ولمن تولاه ﴿الْغَفُورُ﴾ للمقصرين ولذنوب أهل ولايته فإذا كان الله متصفاً بالخلق والملك والتصرف والحكمة والعلم والرحمة والمغفرة ونحوها من الصفات الجليلة فله الحمد المطلق والحمد هو الثناء على الجميل الاختياري من جهة التعظيم من نعمة وغيرها كالعلم والكرم وأما قولهم الحمدعلى دين الإسلام فمعناه على تعليم الدين وتوفيقه والحمد القولي هو حمد اللسان وثناؤه على الحق بما أثنى به بنفسه على لسان أنبيائه والحمد الفعلي هو الإتيان بالأعمال البدنية ابتغاءً لوجه الله والحمد الحالي هو الاتصاف بالمعارف والأخلاق الإلهية والحمد عند المحنة الرضى عن الله فيما حكم به وعند النعم الشكر فيقال في الضراء الحمد على كل حال نظراً إلى النعمة الباطنة دون الشكرخوفاً من زيادة المحنة لأن الله تعالى قال :﴿لَئن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ﴾ (إبراهيم : ٧) والحمد على النعمة كالروح للجسد فلا بد من إحيائها وأبلغ الكلمات في تعظيم صنع الله وقضاء شكر نعمته الحمدولذا جعلت زينة لكل خطبة وابتداء لكل مدحة وفاتحة لكل ثناء وفضيلة لكل سورة ابتدئت بها على غيرها.
وفي الحديث "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمدفهو أجذم" أي : أقطع فله الحمد قبل كل كلام بصفات الجلال والإكرام :