ولما تسبب عن هذا الإنعام بطرهم الموجب لإعراضهم عن الشكر، دل على ذلك بقوله :﴿فأعرضوا﴾ ولما تسبب عن إعراضهم مقتهم، بينه بقوله :﴿فأرسلنا﴾ ودل على أنه إرسال عذاب بعد مظهر العظمة بأداة الاستعلاء فقال :﴿عليهم سيل العرم﴾ أي سيح المطر الغالب المؤذي الشديد الكثير الحاد الفعل المتناهي في الأذى الذي لا يرده شيء ولا تمنعه حيلة بسد ولا غيره من العرامة، وهي الشدة والقوة، فأفسد عليهم جميع ما ينتفعون به، قال أبو حيان : سلط الله عليهم الجرذ فاراً أعمى توالد فيه، ويسمى الخلد، فخرفه شيئاً بعد شيء، فأرسل الله سيلاً في ذلك الوادي، فحمل ذلك السد فروي أنه كان من العظم وكثرة الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين، وحمل الجنان وكثيراً من الناس ممن لم يمكنه الفرار.
ولما غرق من غرق منهم ونجا من نجا، تفرقوا وتمزقوا حتى ضربت العرب المثل بهم فقالوا : تفرقوا أيدي سبا وأيادي سبا، والأوس والخزرج منهم، وكان ذلك في الفترة التي بين عيسى ونبينا محمد ـ ﷺ ـ ﴿وبدلناهم بجنتيهم﴾ أي جعلنا لهم بدلهما ﴿جنتين﴾ هما في غاية ما يكون من مضادة جنتيهم، ولذلك فسرهما بقوله إعلاماً بإن إطلاق الجنتين عليهما مشاكلة لفظية للتهكم بهم :﴿ذواتي أكل﴾ أي ثمر ﴿خمط﴾ وقراءة الجماعة بتنوين ﴿أكل﴾ أقعد في التهكم من قراءة أبي عمرو ويعقوب بالإضافة.