وقرى ( ظاهرة ) أي يظهر بعضها لبعضها يرى سواد القرية من القرية الأخرى، فإن قال قائل : هذا من النعم والله تعالى قد شرع في بيان تبديل نعمهم قوله :﴿وبدلناهم بِجَنَّتيهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ فكيف عاد مرة أخرى إلى بيان النعمة بعد النقمة ؟ فنقول ذكر حال نفس بلدهم وبين تبديل ذلك بالخمط والأثل، ثم ذكر حال خارج بلدهم وذكر عمارتها بكثرة القرى، ثم ذكر تبديله ذلك بالمفاوز والبيادي والبراري بقوله :﴿رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ وقد فعل ذلك، ويدل عليه قراءة من قرأ ( ربنا بعد ) على المبتدأ والخبر، وقوله :﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير﴾ الأماكن المعمورة تكون منازلها معلومة مقدرة لا تتجاوز، فلما كان بين كل قرية مسيرة نصف نهار، وكانوا يغدون إلى قرية ويروحون إلى أخرى ما أمكن في العرف تجاوزها، فهو المراد بالتقدير والمفاوز لا يتقدر السير فيها بل يسير السائر فيها بقدر الطاقة جاداً حتى يقطعها، وقوله :﴿سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً﴾ أي كان بينهم ليال وأيام معلومة، وقوله :﴿ءَامِنِينَ﴾ إشارة إلى كثرة العمارة، فإن خوف قطاع الطريق والانقطاع عن الرقيق لا يكون في مثل هذه الأماكن، وقيل بأن معنى قوله :﴿لَيَالِيَ وَأَيَّاماً﴾ تسيرون فيه إن شئتم ليالي وإن شئتم أياماً لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يسلك ليلاً، لئلا يعلم العدو بسيرهم، وبعضها يسلك نهاراً لئلا يقصدهم العدو، إذا كان العدو غير مجاهر بالقصد والعداوة، وقوله تعالى :﴿قَالُواْ ربَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ قيل بأنهم طلبوا ذلك وهو يحتمل وجهين أحدهما : أن يسألوا بطراً كما طلبت اليهود الثوم والبصل، ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدة اعتمادهم على أن ذلك لا يقدر كما يقول القائل لغيره اضربني إشارة إلى أنه لا يقدر عليه.


الصفحة التالية