الفاء من قوله :﴿ فقالوا ربنا ﴾ لتعقيب قولهم هذا إثر إتمام النعمة عليهم باقتراب المدن وتيسير الأسفار، والتعقيبُ في كل شيء بحسبه، فلما تمت النعمة بَطروها فحَلت بهم أسباب سلبها عنهم.
ومن أكبر أسباب زوال النعمة كفرانها.
قال الشيخ ابن عطاء الله الإِسكندري "من لم يشكر النَعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالِها".
والأظهر عندي أن يكون هذا القول قالوه جواباً عن مواعظ أنبيائهم والصالحين منهم حين ينهونهم عن الشرك فهم يعظونهم بأن الله أنعم عليهم بتلك الرفاهية وهم يجيبون بهذا القول إفحاماً لدعاة الخير منهم على نحو قول كفار قريش :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطِرْ علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ]، قبل هذا "فأعرضوا فإن الإِعراض يقتضي دعوة لشيء" ويفيدُ هذا المعنى قوة ﴿ وظلموا أنفسهم ﴾ عقب حكاية قولهم، فإنه إما معطوف على جملة ﴿ فقالوا ﴾، أي فأعقبوا ذلك بكفران النعمة وبالإشراك، فإن ظلم النفس أطلق كثيراً على الإشراك في القرآن وما الإشراك إلا أعظم كفران نعمة الخالق.
ويجوز أن تكون جملة ﴿ وظلموا أنفسهم ﴾ في موضع الحال، والواو واو الحال، أي قالوا ذلك وقد ظلموا أنفسهم بالشرك فكان قولهم مقارناً للإِشراك.
وعلى الاعتبارين فإن العقاب إنما كان مسبباً بسببين كما هو صريح قوله :﴿ فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ﴾ إلى قوله :﴿ إلا الكفور ﴾ [ سبأ : ١٦، ١٧ ].
فالمُسَبَّب على الكفر هو استئصالهم وهو مدلول قوله :﴿ فجعلناهم أحاديث ﴾ كما ستعرفه، والمسبب على كفران نعمةِ تقارب البلاد هو تمزيقهم كل ممزق، أي تفريقهم، فنظم الكلام جاء على طريقة اللف والنشر المشوَّش.


الصفحة التالية
Icon