وقرأ جماعةٌ كثيرةٌ منهم ابن عباس وابن الحنفية وعمرو بن فائد " ربُّنا " رفعاً على الابتداءِ، " بَعِّدْ " بتشديد العين فعلاً ماضياً خبرُه. وأبو رجاءٍ والحسنُ ويعقوب كذلك إلاَّ أنه " باعَدَ " بالألف. والمعنى على هذه القراءة : شكوى بُعْدِ أسفارِهم على قُرْبها ودُنُوِّها تَعَنُّتاً منهم.
وقُرِئ " بُوعِدَ " مبنياً للمفعول. وإذا نصَبْتَ " بينَ " بعد فعلٍ متعدٍّ مِنْ هذه المادةِ في إحدى هذه القراءاتِ سواءً كان أمراً أم ماضياً فجعله الشيخ منصوباً على المفعول به لا ظرفاً. قال :" ألا ترى إلى قراءةِ مَنْ رفع كيف جَعَلَه اسماً "؟ قلت : إقرارُه على ظرفيَّتِه أَوْلَى، ويكون المفعولُ محذوفاً، تقديره : بَعِّدِ السيرَ بينَ أسفارِنا. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ " بَعُدَ " بضم العين " بينَ " بالنصب، فكما تُضْمِرُ هنا الفاعلَ وهو ضميرُ السَّيْرِ كذلك تُبْقي هنا " بينَ " على بابِها، وتَنْوي السيرَ. وكان هذا أَوْلى ؛ لأنَّ حَذْفَ المفعولِ كثيرٌ جداً لا نِزاع فيه، وإخراجُ الظرفِ غير المتصرِّفِ عن ظرفيتِه فيه نزاعٌ كثيرٌ، وتحقيقُ هذا والاعتذارُ عن رفعِ " بينكم " مذكورٌ في الأنعام.
وقرأ العامَّةُ " أَسْفارِنا " جمعاً. وابن يعمر " سَفَرِنا " مفرداً.
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠)
قوله :﴿ صَدَّقَ ﴾ : قرأ الكوفيون " صَدَّق " بتشديد الدال. والباقون بتخفيفها. فأمَّا الأولى ف " ظنَّه " مفعولٌ به. والمعنى : أنَّ ظنَّ إبليس ذهب إلى شيءٍ فوافق، فصدَّق هو ظنَّه على المجاز والاتساعِ. ومثلُه : كذَّبْتُ ظني ونفسي وصَدَّقْتُهما، وصَدَّقاني وكَذَّباني. وهو مجازٌ سائغ. أي : ظَنَّ شيئاً فوقع. وأصلُه : مِنْ قولِه :" ولأُغْوِيَنَّهم " و " لأُضِلَّنَّهم " وغيرِ ذلك.