ولما كان بعده ـ ﷺ ـ من هذا آمراً لا يتمارى فيه، استأنف قوله معيناً بالتعبير بالصاحب مؤكداً تكذيباً لهم وتنبيهاً على ظهور مضمون هذا النفي :﴿ما بصاحبكم﴾ أي الذي دعاكم إلى الله وقد بلوتموه صغيراً ويافعاً وشاباً وكهلاً، وأعرق في النفي بقوله :﴿من جنة﴾ وخصها لأنها مما يمكن طروءه، ولم يعرّج على الكذب لأنه مما لا يمكن فيمن عاش بين أناس عمراً طويلاً ودهراً دهيراً يصحبهم ليلاً ونهاراً صباحاً ومساءً سراً وعلناً في السراء والضراء، وهو أعلاهم همة وأوفاهم مروءة، وأزكاهم خلائق وأظهرهم شمائل، وأبعدهم عن الأدناس ساحة في مطلق الكذب، فكيف بما يخالف أهواءهم فكيف بما ينسب إلى الله فكيف وكلامه الذي ينسب فيه إلى الكذب معجز بما فيه من الحكم والأحكام، والبلاغة والمعاني التي أعيت الأفهام.
ولما ثبت بهذا إعلاماً وإفهاماً براءته مما قذفوه به كله، حصر أمره في النصيحة من الهلاك، فقال منبهاً على أن هذا الذي أتاهم به لا يدعيه إلا أحد رجلين : إما مجنون أو صادق هو أكمل الرجال، وقد انتفى الأول فثبت الثاني :﴿إن﴾ أي ما ﴿هو﴾ أي المحدث عنه بعينه ﴿إلا نذير لكم﴾ أي خاصاً إنذاره وقصده الخلاص بكم، وهول أمر العذاب بتصويره صورة من له آلة بطش محيطة بمن تقصده فقال :﴿بين يدي﴾ أي قبل حلول ﴿عذاب شديد﴾ قاهر لا خلاص منه، إن لم ترجعوا إليه حل بكم سريعاً، روى البخاري عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال :
" صعد النبي ـ ﷺ ـ الصفا ذات يوم فقال : يا صباحاه! فاجتمعت إليه قريش فقالوا : ما لك، فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني؟ قالوا : بلى، فقال : إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب : تباً لك، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل ﴿تبت يدا أبي لهب وتب﴾ ".


الصفحة التالية
Icon