ولما كان من المعلوم أن الحديد إذا وضع في العنق أنزله ثقله إلى المنكب، لم يذكر جهة السفل وذكر جهة العلو فقال :﴿فهي﴾ أي الأغلال بعرضها واصلة بسبب هذا الجعل ﴿إلى الأذقان﴾ جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين، فهي لذلك مانعة من مطاطأة الرأس.
ولما كان هذا من رفع الرأس فعل المتكبر، وكان تكبرهم في غير موضعه، بيّن تعالى أنهم ملجؤون إليه فهو ذل في الباطن وإن كان كبراً في الظاهر فقال :﴿فهم﴾ أي بسبب هذا الوصول ﴿مقمحون﴾ من أقمح الرجل - إذا أقمحه غيره أي جعله قامحاً أي رافعاً رأسه غاضاً بصره لا ينظر إلا ببعض بصره هيئة المتكبر، وأصله من قولهم : قمح البعير - إذا رفع رأسه عند الشرب ولم يشرب الماء، قال في الجمع بين العباب والمحكم : قال بشر بن أبي حازم يصف سفينة، قال أبو حيان : ميتة أحدهم ليدفنها :
ونحن على جوانبها قعود...
نغض الطرف كالإبل القماح
وقال الرازي في اللوامع : والمقمح : الذي يضرب رأسه إلى ظهره هيئة البعير، وقال القزاز : والمقمح : الشاخص بعيينه الرافع رأسه.
أبو عمرو : والقامح من الإبل هو الذي لا يشرب وهو عطشان عطشاً شديداً ولا تقبل نفسه الماء، والقمح مصدر قمحت الشيء والاقتماح : أخذك الشيء في راحتك ثم تقمحه في فيك أي تبتلعه، والاسم القمحة كاللقمة والأكلة - انتهى.
وكأن المقمح من هذا لأن هيئته عند هذا الابتلاع رفع الرأس وغض الطرف أو شخوصه إذا عسر عليه الابتلاع - والله أعلم فهذا تمثيل لرفعهم رؤوسهم عن النظر إلى الداعي تكبراً وشماخة بحيث لو أمكنهم أن يسكنوا الجو لم يتأخروا صلافة وتيهاً، أو لأنهم يتركون هذا الأمر العظيم الحسن الجدير بأن يقبل عليه ويتروى منه وهم في غاية الحاجة إليه، فهم ذلك كالبعير القامح، إنما منعه من الماء مع شدة عطشه مانع عظيم أقمحه، ولكنه خفي أمره فلم يعلم ما هو، ولذلك بنى الاسم للمفعول إشارة إلى أنهم مقهورون على تفويت حظهم من هذا الأمر الجليل.