فقال : إن غاب عن الحيوان وخلقه فهو لا يعيب عن نفسه، فما باله أولم ير أنا خلقناه من نطفة وهو أتم نعمة، فإن سائر النعم بعد وجوده وقوله :﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾ إشارة إلى وجه الدلالة، وذلك لأن خلقه لو كان من أشياء مختلفة الصور كان يمكن أن يقال العظم خلق من جنس صلب واللحم من جنس رخو، وكذلك الحال في كل عضو، ولما كان خلقه عن نطفة متشابهة الأجزاء وهو مختلف الصور دل على الاختيار والقدرة إلى هذا أشار بقوله تعالى :﴿يسقى بِمَاء واحد﴾ [ الرعد : ٤ ].
وقوله :﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ فيه لطيفة غريبة وهي أنه تعالى قال اختلاف صور أعضائه مع تشابه أجزاء ما خلق منه آية ظاهرة ومع هذا فهنالك ما هو أظهر وهو نطقه وفهمه، وذلك لأن النطفة جسم، فهب أن جاهلاً يقول إنه استحال وتكون جسماً آخر، لكن القوة الناطقة والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة ؟ فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم وهو إلى إدراك القدرة والاختيار منه أقرب فقوله :﴿خَصِيمٌ﴾ أي ناطق وإنما ذكر الخصيم مكان النطق لأنه أعلى أحوال الناطق، فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره، والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصماً لا يبين ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه وقوله :﴿مُّبِينٌ﴾ إشارة إلى قوة عقله، واختار الإبانة لأن العاقل عند الإفهام أعلى درجة منه عند عدمه، لأن المبين بان عنده الشيء ثم أبانه فقوله تعالى :﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾ إشارة إلى أدنى ما كان عليه وقوله :﴿خصيم مبين﴾ إشارة إلى أعلى ما حصل عليه وهذا مثل قوله تعالى :﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً﴾ إلى أن قال تعالى :