ثم قال تعالى :﴿وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ فالجمهور على أنهم الملائكة، وصفوا أنفسهم بالمبالغة في العبودية، فإنهم يصطفون للصلاة والتسبيح، والغرض منه التنبيه على فساد قول من يقول إنهم أولاد الله وذلك لأن مبالغتهم في العبودية تدل على اعترافهم بالعبودية، واعلم أن هذه الآية تدل على ثلاثة أنواع من صفات الملائكة فأولها قوله تعالى :﴿وَمَا مِنَّا إِلاَّ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ وهذا يدل على أن لكل واحد منهم مرتبة لا يتجاوزها ودرجة لا يتعدى عنها، وتلك الدرجات إشارة إلى درجاتهم في التصرف في أجسام هذا العالم إلى درجاتهم في معرفة الله تعالى أما درجاتهم في التصرفات والأفعال فهي قوله :﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون﴾ والمراد كونهم صافين في أداء الطاعات ومنازل الخدمة والعبودية، وأما درجاتهم في المعارف فهي قوله تعالى :﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون﴾ والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به.
واعلم أن قوله :﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون﴾ يفيد الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العبودية لا غيرهم وأنهم هم المسبحون لا غيرهم، وذلك يدل على أن طاعات البشر ومعارفهم بالنسبة إلى طاعات الملائكة وإلى معارفهم كالعدم، حتى يصح هذا الحصر.
وبالجملة فهذه الآلفاظ الثلاثة تدل على أسرار عجيبة من صفات الملائكة فكيف يجوز مع هذا الحصر أن يقال البشر تقرب درجته من الملك فضلاً عن أن يقال هل هو أفضل منه أم لا.
وأما قوله :﴿وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الأولين * لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين﴾ فالمعنى أن مشركي قريش وغيرهم كانوا يقولون :﴿لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً﴾ أي كتاباً من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل لأخلصنا العبادة لله، ولما كذبنا كما كذبوا.