ولما كان تنويع الحيوان إلى أنواع متباينة أدل على القدرة التي هي منشأ القهر، وكان سبحانه موصوفاً بالعلو، وكان أكثر الأنعام أشد من الإنسان، فكان تسخيره له وتذليله إنزالاً عن قوته وإيهاناً لشدته، قال دالاً على ذلك الإنشاء والجعل بلفظ الإنزال :﴿وأنزل لكم﴾ أي خاصة ﴿من الأنعام﴾ أي الإبل بنوعيها، والبقر كذلك، والضأن والمعز.
ولما لم يكن عند العرب البخاتي والجواميس لم يذكرها سبحانه، واقتصر على ما عندهم، وقال :﴿ثمانية أزواج﴾ أي من كل نوع زوجين ذكراً وأنثى، والزوج اسم لواحد معه آخر لا يكمل نفعه إلا به، وإذا نظرت هذه العبارة مع العبارة عن خلق الإنسان فهمت أن الأنعام خلق كل ذكرها وأنثاها على انفراده، لا أن أحداً منها من صاحبه، وذلك أدل على إطلاق التصرف وتنويعه مما لو جعل خلقها مثل خلق الآدمي.
ولما كان تكوينهم في تطويرهم عجباً قال مستأنفاً بياناً لما أجمل قبل :﴿يخلقكم﴾ أي يقدر إيجادكم أنتم والأنعام على ما أنتم عليه من أخلاط العناصر ﴿في بطون أمهاتكم﴾ ولما كان تطوير الخلق داخل البطن حيث لا تصل إليه يد مخلوق ولا بصره، قال دالاً على عظمته ودلالته على تمام القدرة والقهر :﴿خلقاً﴾ ودل على تكوينه شيئاً بعد شيء بإثبات الحرف فقال :﴿من بعد خلق﴾ أي في تنقلات الأطوار وتقلبات الأدوار.
ولما كان الحيوان لا يعرف ما هو إلا في التطوير الرابع، وكان الجهل ظلمة قال :﴿في ظلمات ثلاث﴾ ظلمة النطفة ثم العلقة ثم المضغة، فإذا صار عظاماً مكسوة لحماً عرف هل هو ذكر أو أنثى فزالت عنه ظلمات الجهل، وصار خلقاً آخر، وقيل ؛ ظلمة البطن والرحم والمشيمة - نقل عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ وعزاه ابن أبي الدنيا في كتاب القناعة إلى عيسى ابن مريم عليه السلام.