الثاني : أنه تعالى لما ذكر تخليق الناس من شخص واحد وهو آدم عليه السلام أردفه بتخليق الأنعام، وإنما خصها بالذكر لأنها أشرف الحيوانات بعد الإنسان، ثم ذكر عقيب ذكرهما حالة مشتركة بين الإنسان وبين الأنعام وهي كونها مخلوقة في بطون أمهاتهم وقوله :﴿خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ﴾ المراد منه ما ذكره الله تعالى في قوله :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ * ثُمَّ جعلناه نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عظاما فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أنشأناه خَلْقاً ءاخَرَ فَتَبَارَكَ الله أحسن الخالقين﴾ [ المؤمنون : ١٢ - ١٤ ] وقوله :﴿فِى ظلمات ثَلاث﴾ قيل : الظلمات الثلاث البطن والرحم والمشيمة وقيل : الصلب والرحم والبطن ووجه الاستدلال بهذه الحالات قد ذكرناه في قوله :﴿هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء ﴾.
واعلم أنه تعالى لما شرح هذه الدلائل ووصفها قال :﴿ذلكم الله رَبُّكُمُ﴾ أي : ذلكم الشيء الذي عرفتم عجائب أفعاله هو الله ربكم، وفي هذه الآية : دلالة على كونه سبحانه وتعالى منزهاً عن الأجزاء والأعضاء وعلى كونه منزهاً عن الجسمية والمكانية، وذلك أنه تعالى عندما أراد أن يعرف عباده ذاته المخصوصة لم يذكر إلا كونه فاعلاً لهذه الأشياء، ولو كان جسماً مركباً من الأعضاء لكان تعريفه بتلك الأجزاء والأعضاء تعريفاً للشيء بأجزاء حقيقته، ولو كان ذلك القسم ممكناً لكان الاكتفاء بهذا القسم الثاني تقصيراً ونقصاً وذلك غير جائز، فعلمنا أن الاكتفاء بهذا القسم إنما حسن لأن القسم الأول محال ممتنع الوجود، وذلك يدل على كونه سبحانه وتعالى متعالياً عن الجسمية والأعضاء والأجزاء.


الصفحة التالية
Icon